رأيت هذين المنظرين الغربيين المتباينين فثارت في نفسي في تلك الساعة عاطفتان مختلفتان، عاطفة البغض والاحتقار للأول، وعاطفة الرحمة والشفقة على الثاني، وقلت في نفسي: لو كان لي ولد وكان لا بد له من أن يكون أحد هذين الغلامين، إما الوارث الجالس فوق الرصيف ينثر الذهب نثرًا، أو المتشرد النائم من تحته يسأل الناس لقمة فلا يجدها، لفضلت أن أراه بين فئة المتشردين، على أن أراه بين جماعة الوارثين، لأني أرجو له في الأولى أن يجد بين الراحمين راحمًا يحسن إليه ويستنقذه من شقائه ويأخذ بيده في طريق الحياة الطيبة الصالحة، أما في الثانية فإني لا أرجو له شيئًا.
إن للرحمة طيشًا كطيش القسوة والشدة، وأطيش الراحمين ذلك الذي يستنفد أيام حياته في جمع الثروة لأولاده دائبًا ليله ونهاره لا يهدأ ولا يفتر من حيث يغفل النظر في شأن تربيتهم وتعليمهم ضنًّا بهم أن يزعج نفوسهم بشيء من تكاليف الحياة وأثقالها، فإذا ذهب لسبيله وخلى بينهم وبين ذلك المال الذي جمعه لهم لا يكون لهم من الشأن فيه أكثر مما يكون لجماعة الحمالين في الأثقال التي يحملونها من مكان إلى آخر، فهم ينقلونه من خزائنه شيئًا فشيئًا إلى خزائن الخمارين والمرابين