وكنا نبتهج بكل جديد كما تبتهجون، وننفر من كل قديم كما تنفرون، ونعد الأول آية الآيات مهما سخف واستبرد، والثاني نكبة النكبات مهما غلت قيمته وعظم قدره، لا لأننا وازنا بينهما وفاضلنا بين مزاياهما فحكمنا عليهما، بل لأننا كنا قريبي عهد بزمن الطفولة, والطفل سريع الملل كثير السآمة لا يصبر على لعبته أكثر من يوم واحد حتى يملها فيكسرها, ويستبدل منها غيرها.
وكنا مولعين بالتقليد ولعكم به لا نكاد نعرف لأنفسنا صورة خاصة ترتكز عليها أعمالنا في الحياة، بل كانت تمر بنا جميع الصور على اختلاف أنواعها وألوانها, فنلتقطها بأسرع مما يلتقط "القلم" صوره كأن فضاء حياتنا معمل لتجاريب الحياة واختباراتها.
وكان العارف منا بلغة أجنبية لا يلبث أن يفتتن بها وبأصحابها افتتانا شديدا بما حمله على احتقار لغته وتاريخها، فيرتفع عن ذكر رجالها وعظمائها في أحاديثه واستشهاداته ويسخر منهم كلما جرى ذكرهم على لسان أحد غيره, لا لأنه يفهمهم أو يفهم غيرهم, بل لأنه كان بسيطا غريرا يحتقر كل ما في يده ويستعظم كل ما في يد غيره.
ولم نعرف إلا بعد زوال ذلك العهد أننا كنا مخطئين في جميع هذه التصورات والأفكار, وأنها لم تكن عقائد راسخة في نفوسنا