ولا يزال يتمثل لهم في طعامهم الذي يطعمون، وشرابهم الذي يشربون، وفي جميع ما تمتد إليه عيونهم، وتتصل به أسماعهم، في أضيق من كفة الحابل, وأضنك من عيش السجين.
لا سجن في الدنيا غير سجن النفس، ولا حرية فيها غير حريتها، وليست سعادة المرء بمقدار ما يحيط بجسمه من الفضاء، بل بمقدار ما يحيط بنفسه منه.
فما سجنك الذي تعيش في جوه الموحش المكتئب, وبين جدرانه المتقاربة المتدانية بمانعك من أن تطير بنفسك العالية الخفاقة فيما تشاء من الآفاق والأجواء، وأن تتمتع برؤية هياكل مجدك وعظمتك المقامة لك على ضفاف النيل من طيبة إلى الإسكندرية، وأن تسمع دقات القلوب الخافقة بحبك، وأحاديث النفوس الهاتفة بذكرك.
وما فضاؤهم الرحب الفسيح الذي يحيط بهم بمجدٍ عليهم شيئا إذا حاولوا الحركة والاضطراب فيه؛ لأنهم يعلمون أنهم يعيشون في أمة قد وتروها وآسفوها، وغرسوا الحقد والبغضاء في صدورها، فهم على قوتهم وبأسهم، وعلى ضعفها وتجردها من كل سلاح وعدة، يخشونها ويخافونها، ولا يطيقون أن يحتملوا نظراتها النارية التي تلفح وجوههم، ولا صرخاتها الدموية التي تدوي