وغلَّب القدريَّة جانب الشرع، وقالوا: علمنا أن الله لا يرضى الكفر والمعاصي ولا يحبُّها، فنحن لا نرضاها ولا نحبُّها، وكلُّ ما لا يرضاه ولا يحبُّه فهو لا يقدِّره ولا يخلقه، وعطَّلوا بذلك القدر.
فالجبريَّة مصيبون في قولهم: إن الله قدَّر المعاصي، ضالُّون في زعمهم أن الله يرضاها ويحبُّها.
والقدريَّة مصيبون في قولهم: إن الله لا يرضى المعاصي ولا يحبُّها، ضالُّون في زعمهم أن الله لم يخلقها ويقدِّرها.
وأهل السنَّة جمعوا بين إصابتي الفريقين، وتجنَّبوا ضلالتيهما، وأثبتوا الإرادتين، واعتدلوا في لوازمهما من الرضى والبغض، وجمعوا بين القدر والشرع، ولم يعارضوا بينهما، فلله الحمد والمنَّة على هدايته وتوفيقه.
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: «وجهمٌ ومَن وافقه من المعتزلة اشتركوا في أن مشيئة الله ومحبَّته ورضاه بمعنىً واحدٍ. ثم قالت المعتزلة: وهو لا يحبُّ الكفر والفسوق والعصيان، فلا يشاؤه. فقالوا: إنه يكون بلا مشيئةٍ. وقالت الجهميَّة: بل هو يشاء ذلك؛ فهو يحبُّه ويرضاه. وأبو الحسن وأكثر أصحابه وافقوا هؤلاء؛ فذكر أبو المعالي الجوينيُّ: أن أبا الحسن أوَّل مَنْ خالف السلف في هذه المسألة، ولم يفرِّق به بين المشيئة والمحبَّة والرضى.
وأما سلف الأمَّة وأئمَّتها وأكابر أهل الفقه والحديث والتصوُّف وكثيرٌ من طوائف النظَّار -كالكُلَّابيَّة والكرَّاميَّة وغيرهم-؛ فيفرِّقون بين هذا وهذا؛ ويقولون: إن الله يحبُّ الإيمان والعمل الصالح ويرضى به؛ كما لا يأمر (١)، ولا يرضى
(١) هكذا وردت في المصدر، والذي يظهر أن الصواب الذي يقتضيه السياق -والله أعلم-: «ويرضى به؛ كما يأمر به، ولا يرضى بالكفر … ».