للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ظلمًا؛ إذ كيف يمنعهم الهداية ويعاقبهم يوم القيامة؟

وقد أجاب عن هذا الاستشكال الأئمَّة المحقِّقون -جزاهم الله عن الإسلام وأهله أعظم الجزاء-.

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: «إن ما يُبتلى به العبد من الذنوب الوجودية -وإن كانت خلقًا لله- فهو عقوبةٌ له على عدم فعله ما خلقه الله له وفطره عليه؛ فإن الله إنما خلقه لعبادته وحده لا شريك له، ودلَّه على الفطرة، كما قال النَّبِيُّ : «كلُّ مولودٍ يُولَد على الفطرة» (١)، وقال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: ٣٠]، فهو لما لم يفعل ما خُلِق له، وما فُطِر عليه، وما أُمِر به -من معرفة الله وحده وعبادته وحده- عُوقِب على ذلك بأن زيَّن له الشيطان ما يفعله من الشرك والمعاصي.

فإذا أخلص العبد لربِّه كان هذا مانعًا من فعل ضدِّ ذلك، ومن إيقاع الشيطان له في ضدِّ ذلك، وإن لم يخلص لربه الدِّين ولم يفعل ما خُلِق له وفُطِر عليه عُوقِب على ذلك، وكان من عقابه تسلُّط الشيطان عليه حتى يزيِّن له فعل السيِّئات، وكان إلهامه لفجوره عقوبةً له على كونه لم يتَّق الله، وعدم فعله للحسنات ليس أمرًا وجوديًّا حتى يُقال: إن الله خلقه، بل هو أمرٌ عدمِيٌّ، لكن يُعاقَب عليه؛ لكونه عدم ما خُلِق له وما أُمِر به، وهذا يتضمَّن العقوبة على أمرٍ عدمِيٍّ، لكن بفعل السيِّئات لا بالعقوبات التي يستحقُّها بعد إقامة الحجَّة عليه بالنار ونحوها» (٢).


(١) أخرجه البخاري (١٣٨٥)، ومسلم (٢٦٥٨).
(٢) مجموع الفتاوى (١٤/ ٣٣١ - ٣٣٣).

<<  <   >  >>