ونقول مجيبين: إِنَّ النصوص التي يَهُمُّنا إثراؤُها دِلالِيًّا هي النصوص القُرْآنِيَّة، والأحاديث النبَوِيَّة، والنصوص الأدبيَّة ــ خاصة الشعر ــ، فتلك هي النصوص التي يهمُّنا في المقام الأول والأخير إثراؤها دِلالِيًّا، والبحث عن دلالات متنوعة في هذه النصوص مطلوب، وقدرة النَّصّ على
«العطاء الدِّلَالِيّ» دليل على سمو هذا النَّصّ وعلو مكانته. وإذا قصرنا حديثنا على الآيات القُرْآنِيَّة والأحاديث النبَوِيَّة فإِنَّنَا يمكن أَنْ نقول إِنَّ هذه النصوص ما زالت في حاجة ماسَّة إلى «مَنْ يُثْريها دِلالِيًّا»، ويستخرج من كنوزها الدلالات الشَّرْعِيَّة التي تفيدنا في زمننا وعصرنا.
ولحكمة ما جعل اللهُ في قرآنَه «مجموعة من الآيات المتشابهة» التي استفزَّت ــ وما زالت ــ الملكاتِ العقلِيَّة لدى العلماء وتقتدحُها لكي يَخْبُرُوها ويُقَلِّبُوا فيها الطرف ويعيدوا النظر فيها مرارا وتكرارا. ومن روائع ما قيل في هذا الشأن قول الزَّمَخْشَرِيّ المعتزلي في تفسير الكشاف:
«فإنْ قلت: فهلّا كان القرآن كله مُحْكَمًا؟ قلت: لو كان كلُّه محكما لتعلَّق الناس به لسهولة مأخذه؛ ولأعرضوا عما يحتاجون فيه إلى الفحص والتأَمُّل من النظر والاستدلال، ولو فعلوا ذلك لَعَطَّلُوا الطريق الذي لا يُتَوصَّل إلى معرفة اللَّه وتوحيده إلا به، ولما في المتشابه من الابتلاء والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه، ولما في تقادح العلماء وإتعابهم القرائح في استخراج معانيه وردّه إلى المحكم من الفوائد الجليلة، والعلوم الجَمَّة، ونيل الدرجات عند اللَّه، ولأنّ المؤمن المعتقد أَنَّ لا مناقضة في كلام اللَّه ولا اختلاف فيه، إذا رأى فيه ما يتناقض في ظاهره، وأهمه طلب ما يوفِّق بينه، ويجريه على سنن واحد، ففكَّر، وراجع نفسه وغيره؛ ففتح اللَّه عليه وتبين مطابقة المتشابه المحكم، ازداد طمأنينة إلى معتقده وقوّة في إيقانه») (١).
إن الإمام الزَّمَخْشَرِيّ يوجب النظر في متشابه القرآن ليس فقط لكي يستنبط منه الناس ما يحتاجون إليه في أمور دنياهم بل إِنَّهُ يعتبر هذا «النظر» طريقا من الطرق الموصِّلة لله. فإذا كان
«الخوف من اللَّبس» الذي سيترتب على تعَدُّد الدِّلَالَة المستنبطة من الآيات المتشابهة أمرا معتبرا وخطيرا ــ ما جعل الله في قرآنه ما يؤدي إلى ذلك، ولكان ذلك عبثا حاشا لله أَنْ يفعله؛ لذلك
نقول: إِنَّ الإثراء الدِّلَالِيّ للآيات القُرْآنِيَّة والأحاديث النبَوِيَّة والنصوص الأدبيَّة أمر لا خوف منه، وأنَّ منعه بحجة أو مظنّة الوقوع في اللَّبس أمر لا محل له، بل إِنَّ هذا الإثراء واجب شرعي. ونزداد اطمئنانا إذا علمنا أن القرينة هي الحارس الأمين على هذا الإثراء.