للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

(( ... وذلك قولك: له عِلْمٌ عِلْمُ الفُقَهاءِ، وله رَأَىٌ رأىُ الأُصَلاءِ. وإنَّما كان الرفعُ فى هذا الوجهَ لأَنَّ هذه خِصالٌ تَذكرها فى الرجل، كالحِلم والعلم والفضل، ولم ترد أَنْ تُخبِر بأنَّك مررت برجل فى حال تعلُّمٍ ولا تفهُّمٍ، ولكنّك أردت أَنْ تَذكر الرجل بفضلٍ فيه، وأَنْ تَجعل ذلك خَصلةً قد استَكملها، كقولك: له حَسَبٌ حَسَبُ الصالحينَ؛ لأَنَّ هذه الأشياءَ وما يُشْبِهها صارت تَحليةً عند الناس وعلاماتٍ. وعلى هذا الوجهِ رُفع الصوتُ. وإن شئت نصبتَ فقلت: له عِلْمٌ علمَ الفقهاءِ، كأَنَّك مررت به فى حال تعلُّمٍ وتفقُّهِ، وكأَنّه لم يَستكمل أَنْ يقال: له عالِمٌ. وإِنَّمَا فُرق بين هذا وبين الصَّوت لأَنَّ الصوت عِلاجٌ، وأنّ العِلْم صار عندهم بمنزلة اليَدِ والرَّجلِ. ويدلُّك على ذلك قولهم: له شَرَفٌ، وله ديِنٌ، وله فَهمٌ. ولو أرادوا أنّه يُدْخِلُ نفسَه فى الدَّينِ ولم يَستكمل أَنْ يقال: له دِينٌ، لقالوا: يَتديَّنُ وليس بذلك، ويَتشرَّفُ وليس له شَرَفٌ، ويَتفهَّمُ وليس له فَهَمٌ. فلمّا كان هذا اللفظُ للّذين لم يَستكملوا ما كان غيَر علاجٍ، بَعُدَ النصبُ فى قولهم: له عِلْمٌ علمُ الفقهاءِ. وإذا قال: له صوتٌ صوتَ حمارٍ، فإِنَّما أَخبر أنَّه مرّ به وهو يصوَّت صوتَ حمارٍ. وإذا قال: له علمٌ علمُ الفقهاءِ، فهو يُخبِر عمَّا قد استقرّ فيه قبل رؤيته وقبل سَمْعِه منه، أو رَآه يَتعلَّم؛ فاستدَلّ بحُسْن تعلُّمهِ على ما عنده من العلم، ولم يردْ أَنْ يُخبِر أَنَّه إِنَّمَا بدأَ فى عِلاج العلم في حال لُقِيِّه إيّاه؛ لأَنَّ هذا ليس مما يُثْنَى به، وإنَّما الثناءَ فى هذا الموضع أَنْ يُخبِر بما استَقرّ فيه، ولا يُخبِر أنّ أَمْثَلَ شيء كان منه التعلُّمُ فى حال لقائِه)) (١).

إن هذا النَّصّ يدل على عبقرية سيبويه في الملاحظة، ومعايشته التامة لنصوص اللُّغَة كما أثبتنا قبلُ، ويدل على أَنَّ إرادة المُتَكَلِّم المتحكِّمة في اختيار الوجه الإعرابِيّ المناسب مقيَّدة بسياق الحال وبالتحديد العلاقة بين المُتَكَلِّم والمُتَحَدَّثِ عنه، فلكي يختار المُتَكَلِّم علامة النصب أو الرفع لابد أَنْ يكون مُلمًّا بحال من يتحدَّث عنه. فالاختيار هنا ليس عشوائيا بل مقيَّدا بسياق الحال.

ويؤخذ من هذا النَّصّ عدة فوائد أخرى:

١ ــ الخلفيَّة الاجتِماعِيَّة والثقافيَّة لصاحب اللُّغَة تؤثِّر في التوجيه الإعرابِيّ، وليس فقط ملابسات الحال الوقتِيَّة اللحظِيّة، وجملة سيبويه ((لأَنَّ هذه الأشياءَ وما يُشْبِهها صارت تَحليةً عند الناس وعلاماتٍ)) في النَّصّ السابق دليل على ذلك. وأَنَّ لتلك الخلفيَّة تأثيرا على إرادة المُتَكَلِّم في اختيار الوجه الإعرابِيّ المناسب.


(١) سيبويه: الكتاب، ١/ ٣٦١ ــ ٣٦٢

<<  <   >  >>