للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الرفع؛ وذلك لقرينة عقلية محضة تراعي طبيعة المحدث عنه، وهي أَنَّ المنعوت دابة لا تعقل؛ فلا يعقل أَنَّ المُتَكَلِّم يريد إثبات مبالغة لها؛ فينعت؛ فلذلك لم يبق هنا إلا الرفع لمجرد الإخبار.

يقول سيبويه: «تقول: مررت برجلٍ أسدٍ أبوه؛ إذا كنت تريد أَنْ تجعله شديدًا، ومررت برجل مثل الأسد أبوه، إذا كنتَ تشبهه. فإنْ قلت: مررت بدابة أسدٌ أبوها فهو رفعٌ؛ لأَنَّكَ إِنَّمَا تخبر أَنَّ أباها هذا السبع. فإنْ قلت: مررتُ برجل أسدٌ أبوه على هذا المعنى رفعتَ، إلا أَنَّكَ لا تجعل أباه خَلقُه كخِلقة الأسد ولا صورته») (١).

ويفهم من النَّصّ أَنَّ سيبويه يفرق في التوجيه الإعرابِيّ بين ما طبيعته إنسان وبين ما طبيعته حيوان، وهذا ما استنبطه عموما من تتَبُّعه للنصوص العربِيَّة. ويؤكد السيرافي هذا المعنى قائلا:

«جعلت العرب لما يعقل في موضع اختصاصا في اللفظ، وفصلت بينه وبين ما لايعقل فيه، لما اختص به ما يعقل بأن يُخاطِب ويخاطَب، ويأمُر ويؤمر، وتُخبِر وتُخبَر عنه، وما لا يعقل ليس له من ذلك إلا الإخبار عنه؛ فجعل لما يعقل تفضيل واختصاص») (٢).

١ ــ لا نستطيع أَنْ ننكر فضل الخليل على تلميذه سيبويه في توجيه نظره إلى أهمِيَّة سياق الحال، وهذا ما لم يجحده سيبويه، ففي أكثر من موضع يلعب فيه السِّياق دورا ما يشير سيبويه إلى الخليل، وقد ذكرنا هذا في مواضع عديدة في هذا الفصل) (٣).

٢ ــ ومما تعلمناه من مجموع النصوص في هذا الفصل أَنَّنا نستطيع أَنْ نوجّه الجملة أي توجيه إذا أمكننا «تصور سياق ما» تقع فيه هذه الجملة، أي أَنَّنا إذا استطعنا أَنْ نقوم بما يمكن أَنْ نسميه بـ «التكييف السِّياقي» لتوجيه ما نستطيع أَنْ نقول به.

٣ ــ في بعض الأحيان يكون المتحكم في التوجيه الإعرابِيّ ما يمكن تسميته بـ «القرينة العقلِيَّة»، وليست قرينة سياق حال ولا قرينة لغوية.

مثال ذلك: تقبيح سيبويه قول من يقول: «لا تدنُ من الأسد يأكلْك» بجزم الفعل «يأكلْك»؛ ويكون المعنى في هذه الحالة على الجزاء، أي أَنَّ المعنى المفهوم من الجملة: إذا ابتعدت عن الأسد

يأكلك؛ وهذا لا يعقل. يقول: «فإنْ قلت لا تدن من الأسد يأكلك؛ فهو قبيح إِنْ جزمت، وليس


(١) سيبويه: الكتاب، ٢/ ٢٩
(٢) شرح كتاب سيبويه: ٢/ ٣٦٩
(٣) ينظر مثلا: المثال الذي أوردناه في: إمكانِيِّة سكوت المُتَكَلِّم ودوره في التوجيه الإعرابِيّ، والمثال الخامس في جزئية: تَحَرُّك سيبويه بحُرِّيَّة في توجيهاته النَّحْوِيَّة. ولا يفوتنا هنا أن نذكر أن سيبويه يعترف بهذه الأستاذية على مدار الكتاب، فقد ذكر النقل عنه في ٣٥٦ موضعا.

<<  <   >  >>