للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ويظهر من كلام العلماء السابق، وكلام سيبويه اللاحق عن هذا الأسلوب أَنَّهُ واقع لا محالة تحت سيطرة سياق الحال، ودليل هذه السيطرة أَنَّنا لا نندب باسم «مبهم»، مثل: رجل أو هذا؛ ففي الندبة يجب أَنْ «يُخَص» الاسم المندوب؛ لأَنَّها بيان؛ ولأَنَّ التبيين في الندبة عذر للتفجع، فالندبة تقتضي موقفا فيه تفجُّع وألم من شيء مُحَدَّد وقع للنادب. يقول سيبويه «وذلك قولك: وارَجُلاه ويا رُجلاه. وزعم الخليل رحمه الله ويُونُس أَنَّهُ قبيح، وأنَّه لا يقال. وقال الخليل رحمه الله: إِنَّمَا قبح لأَنَّكَ أبهمت. ألا ترى أَنَّكَ لو قلت واهذاه، كان قبيحا، لأَنَّكَ إذا ندبت فَإِنَّما ينبغي لك أَنْ تفجع بأعرف الأسماء، وأنْ تخص ولا تُبهم؛ لأَنَّ الندبة على البيان ... ، وإِنَّمَا كرهوا ذلك أَنَّهُ تفاحَش عندهم أَنْ يختلطوا وان يتفجعوا على غير معروف. فكذلك تفاحش عندهم في المبهَم لإبهامه؛ لأَنَّكَ إذا ندبت تُخبر أَنَّكَ قد وقعت في عظيم، وأصابك جسيمٌ من الأمر، فلا ينبغي لك أَنْ تُبهم») (١).

وقال أيضا: «وزعم أَنَّهُ لا يستقبح وامَن حفر بئر زَمزماه؛ لأَنَّ هذا معروف بعينه، وكَأَنَّ التبيين في الندبة عذر للتفجع. فعلى هذا جرت الندبة في كلام العرب، ولو قلت هذا لقلت وامن لا

يعنيني أمرُهوه. فإذا كان ذا تُرك لأنَّهُ لا يُعذر على أَنْ يُتفجّع عليه، فهو لا يُعذر بأن يتفجع ويُبهم، كما لا يُعذر على أَنْ يتفجع على من لا يعنيه أمره») (٢).

إن تأكيد سيبويه على تحديد المندوب أمر في منتهي المنطقية؛ إذ كيف يندب النادب مندوبا لم يكن بينه وبين هذا المندوب أَيَّة علاقة بل ليست أَيَّة علاقة، إنَّها علاقة في غاية الحميمية والارتباط، تجعل القلب ينتفض، والعين تدمع لفراق من أحبَّهم.

وإن شرط عدم الإبهام أيضا فيه مراعاة لجانب المخاطب؛ إذ إِنَّ إبهام المندوب سيوقع المخاطب في لبس، وستتأخر مشاركته الوجدانية التي يحتاجها النادب.


(١) سيبويه: الكتاب، ٢/ ٢٢٧
(٢) سيبويه: الكتاب، ٢/ ٢٢٨

<<  <   >  >>