للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والأشكال أكثر مما عني بالدلالات والمعاني»، وفتح مبدأ «العلية على النُّحَاة باب فلسفة مفرطة وثقيلة أحيانا، فهناك علل أُوَل وثوان وثوالث، وقد يكون للمعلول الواحد أكثر من علة يتأولها كل نحوي كما يتراءى له». إِنَّ الأمور مع نظَرِيَّة العامل سارت اتجاها عكسيا نحو التعقيد والفوضى، وقتلت الحياة في النحو العربي.

وإذا كان من خصائص النظَرِيَّة العلميَّة أنَّها تعكس الواقع وتعيد إنتاجه؛ فَإِنَّ نظَرِيَّة نحوِيَّة علمِيَّة تعتمد على السِّياق ستكون أقرب للصحة العلميَّة من نظَرِيَّة تتَأَثَّر بنظام فلسفي بعيد عن الواقع ولا يمت له بصلة. ونذكِّر هنا بما نقلناه عن أبي حيان التوحيدي عن النحو أنَّه: «دليل النحو طباعي، ودليل المنطق عقلي. والنحو مقصور، والمنطق مبسوط. والنحو يتبع ما في طباع

العرب، وقد يعتريه الاختلاف») (١). وتستوقفنا هذه الجملة «والنحو يتبع ما في طباع العرب»

ونقول: أليست هذه الطباع أمر عرفي واقعي أم ماذا؟ ألم يُقر علماؤنا أَنَّ «العرف وعادة أصحاب اللُّغَة [أمر جوهري]، فما تعودوه من أساليب التعبير، وما جرت به ألسنتهم، وما ألفوه في كلامهم من طرق مُعَيَّنَة في التعبير بالألفاظ؛ كل هذا هو المصدر الوحيد لنحو كل لغة» (٢). ألم تقل الأبحاث التي أجريت على كتاب سيبويه أهم كتب النحو العربي «إِنَّ هناك ميزة أخرى لسيبويه لا تقل أهمِيَّة عما ذكرناه وهو شيء تجاهله ولم يهتم به المتأخرون من العلماء وكذلك المحدثون: ألا وهو اهتمامه الكبير هو والنُّحَاة الأولون بالاستعمال الحقيقي لِلُّغَة، والرصد المتواصل لتصرفات الناطقين في التخاطب العفوي ومن ثَمَّ لأوضاع اللُّغَة») (٣).

ولا ننكر أَنَّ هناك إشارات في كتاب سيبويه ــ ونعتقد أنَّها إشارات قليلة وليست كثيرة ــ تدلُّ على تَأَثُّر سيبويه بنظَرِيَّة العامل، بسبب البيئة العلميَّة التي نشأ فيها التي أثرت عليه فكريا.

يقول د. إبراهيم مدكور: «وفي وسعنا أَنْ نُقَرِّر بعد كل هذا أَنَّ المترجمين في تعلمهم للعربية، وفيما نقلوا من كتب أجنبية قد بدأوا في القرن الثاني للهجرة فأثاروا جوا حول المشاكل النحوِيَّة، ولأرسطو في هذا الجو نصيب ملحوظ. ولا يصح أَنْ نغفل ما لهذا الجو من أثر على نحاة العرب الذين عاشوا فيه وتغذوا بغذائه المادي والمعنوي. ووجه الشبه بين المنطق والنحو قديمٌ؛ فصناعة المنطق من العقل والمعقولات كصناعة النحو من اللسان والألفاظ ... وقد مهد له [أي: عيسى بن عمر في مؤلفاته النحوِيَّة] أخيرا تلك البحوث النحوِيَّة التي نقلها المترجمون عن نحو السريانية أو عن منطق


(١) المقابسات: ص ١٧١
(٢) د. إبراهيم أنيس: من أسرار اللُّغَة، ص ١٣٧
(٣) د. عبد الرحمن الحاج صالح: الجملة في كتاب سيبويه، مجلة مجمع اللُّغَة العَرَبِيَّة، القاهرة، ع ٧٨، ) ١٩٩٦ م (، ص ١١٠

<<  <   >  >>