للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

اهتمام علمائنا الأقدمين بالسِّياق:

تجعلنا طِدَةَ العلاقةِ بين اللُّغَة والكلام، وتأكيد العلماء على تأثُّر هذه العلاقة بالسِّياق أَنْ نتساءل: ما مدى وعي علمائنا الأقدمين بتأثير السِّياق على اللُّغَة؟ هل كان وعيهم بهذا التأثير على المستوى النظري فقط أم كان وعيا نظريا وتطبيقا معا؟

ولأهمِيَّة سياق الحال وسلطانه على الكلام لا نتوقَّع أَنْ يغفل عنه علماء أمتنا، وألا تبعد خطورة هذا التأثير وهذا السلطان عن فطنتهم وإدراكهم. وتكفي إطلالة يسيرة على تراثنا لنثبت عمق فهم علمائنا لقضية السِّياق، وإدراكهم لأثره النظري والتطبيقي، وتحكمه في تكوين الدِّلَالَة المستنبطة من النَّصّ. ولم يكن هذا الإدراك مقصورا على فئة من العلماء دون أخرى بل شمل جُلَّ العلماء على اختلاف مشاربهم وتخصُّصاتهم.

ويأتي على رأسهم البلاغيون واللغويُّون وبعض النحاة، ومن إشاراتهم:

- نجد شيخ اللغويّين ابن جني يعقد فصلا في كتابه «الخصائص» بعنوان: «باب مراتب الأشياء، وتنزيلها تقديرا وحكما، لا زمانا ووقتا»، يتحدَّث فيه عن دور السِّياق فيقول في آخر هذا العنوان: «ومن ذلك ما أقيم من الأحوال المشاهدة مقام الأفعال الناصبة، نحو قولك إذا رأيت قادمًا: خير مقدم؛ أي قدمت خير مقدم. فنابت الحال المشاهدة مناب الفعل الناصب. وكذلك قولك للرجل يُهوي بالسيف ليضرب به: عمرًا، وللرامي للهدف إذا أرسل النزع فسمعت صوتًا: القرطاس والله؛ أي اضرب عمرًا، وأصاب القرطاس») (١).

- ونجد ابن هشام عند حديثه عن الفعل المتعدي يقول: «كونه مذكورا هو الأصل ... وقد يضمر جوازا إذا دَلَّ عليه دليل مقالي أو حالي؛ فالأول نحو: {قَالُوا خَيْرًا} النحل: ٣٠؛ أي أنزل ربنا خيرا بدليل {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} النحل: ٢٤، والثاني: نحو قولك لمن تأهَّب لسفر:

«مَكَّةَ؟ » بإضمار «تريد»، ولمن سدَّد سهما: «القرطاسَ»؛ بإضمار تصيب») (٢).

- وها هو ذا الإمام السيوطي يقول في كتابه المختصر «جمع الجوامع» عند حديثه عن أقسام

«أل» وأنواعها ما نصه: «فإنْ عُهِد مصحوبها بحضور حسِّي أو علمي فعهديَّة، ويَعْرِض فيها الغَلَبة واللمح، وإلا فجنسيَّة؛ فإنْ لم يخلفها كل فلتعريف الماهيَّة، أو خلفها حقيقة فللشمول»، ثُمَّ يشرح قوله هذا في كتابه «همع الهوامع» فيقول: «أل نوعان: عهديَّة وجنسيَّة


(١) الخصائص: ا/٢٦٤
(٢) شذور الذهب في معرفة كلام العرب: ت: محمد محيي الدين عبد الحميد، ) بدون أَيَّة بيانات أخرى (،
ص ٢١٤

<<  <   >  >>