الفترة من الفكر الإسلامي، إلا وتأخذه الدهشة من أساليب المعتزلة ضد خصومهم، فقد استخدموا أسلوبًا مضادًا لمبادئهم المعلنة باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لينكلوا بكل مخالف، فكم من الضحايا المعارضين لهم ألقي بهم في السجون! فانكمش أغلب المحدثين والفقهاء يلعقون جراحهم، حتى أصبح الانتساب إلى الاعتزال فاشيًا منتشرًا، وكل من كان متسننًا كان متخفيًا مستترًا (١) .
وظهر في هذه الفترة التي عم فيها الاضطهاد بأشد أساليب القمع، الإمام أحمد ابن حنبل ليعلن استمساكه بعقيدة الأوائل، وكانت محنة (خلق القرآن) هي مركز الدائرة التي دارت حولها المنافشات الكلامية، وظل الأمر كذلك في أيام المأمون والمعتصم والواثق، وكأن التاريخ وقف عندهم حابسًا أنفاسه، ليدون تفاصيلها، مثبتًا أن الرأي لا يمكن أن يدحض إلا برأي مضاد، وأن أساليب القوة لا تجدي في مجال العقائد والأفكار، وظلت العقيدة الصحيحة حية توارثها الطائفة الظاهرة على الحق.
وقبل التعرض للمحنة، فإنه يجدر بنا تناول الحديث عن الإمام أحمد بإيجاز.
[حياته وعصره]
هو أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الإمام عبد الله، ولد في ربيع الأول سنة ١٦٤ هـ وتوفي أبوه محمد شابًا، فوليته أمه، وحفظ القرآن في صباه وتعلم القراءة والكتابة، وظهر فيه آثار النبوغ مبكرًا، اتجه إلى الحديث وبقي يتلقى الحديث ببغداد من سنة ١٧٩ هـ إلى ١٨٦ هـ، وكان في طلبه للعلم مثال الجد والحرص والنشاط فقد روى عن نفسه (كنت ربما أردت البكور في الحديث فتأخذ أمي بثيابي، حتى يؤذن الناس أو حتى يصبحوا) .
رحل إلى عدة بلاد طالبًا للحديث، فسار إلى البصرة، الحجاز، اليمن، مكة، وإلى الكوفة واستمر على الجد والطلب حتى بلغ مبلغ الإمامة في الحديث، ووصف بأنه أعلم الناس بالسنة وكان معجبًا بالشافعي استفاد منه في الفقه والاستنباط، وكان الشافعي معجبًا به أيضًا فوصفه بأنه لا أحد ببغداد أفقه من ابن حنبل. وعند الأربعين شرع في التدريس والفتيا، فأقبل الناس على مجالسه إقبالاً عظيمًا، ويذكر ابن الجوزي