يرى المعارضون أن الاختلاف ينبغي أن يفصل بين النظر الشرعي والكلام المبتدع، ويظهر الاختلاف بينها منهجيًا قبل أي شيء آخر، إذ يرى أهل الحديث أن العقل لا يوجب شيئًا فلا دور له ولا حظ في تحليل أو تحريم أو تحسين أو تقبيح ما لم يرد به الوحي مستدلين على ذلك بقول الله تعالى:(وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)[الإسراء، الآية: ١٥] وقوله عز وجل: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)[النساء، الآية: ١٦٥] ، وقال تعالى حاكيًا عن الملائكة فيما خاطبوا به أهل النار:(ألم يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى)[الزمر، الآية: ٧١] ، فيتبين من هذه الآية أنه - عز وجل - أقام عليهم الحجة ببعث الرسل فلو كانت الحجة لازمة بنفس العقل لم يكن بعثة الرسل شرطًا لوجوب العقوبة، وإذا تأسس الإيمان على العقل لأدى ذلك إلى إنكار دور الرسل وكأن وجودهم وعدمه بمنزلة واحدة، أو كأنهم اقتصروا في دعوتهم على الشرائع وفروع العبادات دون أصول الدين.
وهنا تظهر صورة مختصرة للاعتراض في صيغة تهكم، فيرى أحدهم (أنه لو قال قائل: لا إله إلا الله عقلي رسول الله لم يكن مستكفرًا عن المتكلمين من جهة المعنى، فظهر فساد قول من سلك هذا)(١) . وأيضًا ففي الدين معقول وغير معقول والاتباع في جميعه واجب، وأن الله تعالى هو الذي يعرف العبد ذاته فقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا" فدل على أن الله تعالى يعرف العبد مع وجود العقل سبب الإدراك والحجة لقوله عز وجل: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [النحل، الآية: ٦٧] وقوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ [ق، لآية: ٣٧] وقال تعالى مخبرًا عن أصحاب النار: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك، الآية: ١٠] .
فالعقل آلة لإقامة العبودية لا لإدراك الربوبية، فهو آلة التمييز بين القبيح والحسن، السنة والبدعة، الرياء والإخلاص، ولولاه لم يكن تكليف ولا توجه أمر ولا
(١) القاضي عبد الجبار: فرق وطبقات المعتزلة ص ٦١- ٦٤.