الحضارة الإسلامية الزاهية، حيث تأكد لعلماء الحديث والسنة بطريق لا تقبل الشك ويشهد بها التاريخ ويقرها الواقع الماثل أمامهم أن عقيدة الإسلام وعباداته ونظمه وأخلاقياته قد تحققت كاملة في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلافة الراشدة فكانت دولة عالمية تشع نورًا بقيمها وعلومها ومثلها العليا، فكان العلماء حريصين على بقاء هذه الدولة العظمى بأركانها جميعًا، وأهم أركانها بلا شك هي العقيدة بأصولها المدعمة بالأدلة من الكتاب والسنة، فلما جاء المنشقون لإثارة اللغط حول ما بني واكتمل وظهر آثاره رأوا أنه بمثابة معول هدم لن يتوقف إلا بعد أن يتحول البناء إلى ركام.
ونحن نرى - من زاوية التشابه مع نظرتنا المعاصرة التي بيناها آنفًا - أنهم كانوا محقين في معارضتهم. وسيزداد اقتناعنا كلما مضينا في بحثنا.
[علم الكلام بين الأصالة والابتداع]
إن من سمات منهجنا في هذه الدراسة النظر إلى علم الكلام من اتجاهين:
أحدهما: الاتجاه الذي يتبناه شيوخ المعتزلة والأشاعرة بمفاهيم ومصطلحات بعضها إسلامي والآخر مستعار من ميتافيزيقا اليونان، كالقول بالقديم والمحدث والجوهر والعرض وغيرها.
والاتجاه الثاني: الذي يتبناه علماء الحديث والسنة ويتلخص في أن القرآن الكريم قد استوفى القضايا التي خاض فيها المتكلمون، وتظهر أصالة المنهج عندهم إذا استخلصنا من آرائهم السمة الطاهرة المصطبغ بها نتاجهم، ويتضح ذلك بصفتين ظاهرتين:
الأولى: الاستناد على طرق الاستدلال القرآنية لتدعيم نقدهم للنظريات الكلامية في دوائر الفرق الكلامية المعروفة.
الثانية: رفضهم تقسيم دائرة الإسلام الكبرى إلى دوائر متفرقة، لأنه ينبغي في رأيهم معرفة الإسلام واعتناق عقيدته لمنهج متكامل، لأنه شامل: يحدد الغرض من حياة الإنسان، مخاطبًا عقله، ومغذيًا وجدانه وراسمًا له طريق السلوك الصحيح المؤدي إلى سعادة ممتدة من الحياة الدنيا المؤقتة إلى حياة الآخرة الخالدة.
وفي هذا المعنى نجد "ابن تيمية" يرفض تجزئة الإسلام، فالصوفية في رأيه بنوا أمرهم على الإرادة وحدها، والمتكلمون بنوا أمرهم على النظر وحده، ولكن لابد