للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

زعم أنه دخل في مكان وحش قذر رديء وإن قال: خلقهم خارجًا عن نفسه ثم لم يدخل فيهم رجع عن قوله أجمع. وهو قول أهل السنة.

ومثل هذا النص يعطينا صورة عن طريقة الجدل عند الإمام، بل إن أكثر أجزاء كتابه تمضي على هذا النحو القائم على نظر عقلي محض. ويجعلنا ندرك أنه تصدى للمعتزلة بالمنهج العقلي قبل ظهور المذهب الأشعري بزمن طويل.

وها نحن أمام نموذج ثان من نماذج الاستدلالات العقلية المؤدية إلى إفحام الخصم وإقراره بخطئه، واضطراره إلى التنازل عن رأيه. ففي نقاشه لإثبات علم الله تعالى، يقول: إذا أردت أن تعلم أن الجهمي لا يقر بعلم الله فقل له: الله يقول: (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) ويسرد آيات أخرى تصف الله عز وجل بالعلم. فإن قال الجهمي: ليس له علم، كفر، وإن قال: لله علم محدث، كفر، حين زعم أن الله قد كان في وقت من الأوقات لا يعلم حتى أحدث له علمًا فعلم. فإن قال: لله علم وليس مخلوقًا ولا محدثًا. رجع عن قوله كله، وقال بقول أهل السنة.

[المحنة]

نفى المعتزلة الصفات الإلهية كما بينا في أصل من أصولهم وهو التوحيد، ولكنهم خرجوا على هذا الأصل عندما تطرقوا إلى صفة الكلام الإلهي، فلم يقولوا بأنه متكلم وكلامه ذاته خشية أن يتساوى كلام الله عز وجل مع ذاته فيكون هناك قديمان مما يؤدي إلى الشرك، ولهذا فإنهم يرون أن كلام الله - أي أن القرآن - مخلوق محدث وغير قديم، فيُحدثه وقت الحاجة إلى الكلام، مفسرين تكليم الله موسى بأن الله خلق الكلام في شجرة فسمعه موسى عليه السلام (١) .


(١) د. أبو ريان: تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام ص ١٩٤ - ١٩٥ - أحمد بن أبي دؤاد: أحمد بن أبي دؤاد (على وزن فؤاد) بن علي أبو سليمان، يكثر ذكره إذا ما تطرق الحديث إلى محنة القرآن. كان قاضيًا، ثم أصبح وزيرًا نافذ الكلمة عند الخلفاء الثلاثة: المأمون (٢١٨ هـ) والمعتصم (٢٢٧ هـ) والواثق (٢٣٢ هـ) لا سيما الثاني منهم حتى قيل: إنه ما رؤي أحد قط أطوع لأحد من المعتصم لابن أبي دؤاد، وتشير المصادر إلى اهتزاز هذه المكانة لدى الواثق، ثم انهارت تماما أمام المتوكل، إذ رفع المحنة بخلق القرآن وأظهر السنة وأمر بنشر الآثار النبوية وأكرم الإمام أحمد بن حنبل وقدمه. ويقال: إن الواثق قبله قد ترك الاشتغال
=

<<  <   >  >>