فمن إجابته (لست بصاحب كلام، ولا أرى الكلام في شيء من هنا إلا ما كان في كتاب أو حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو عن أصحابه، فأما غير ذلك فإن الكلام فيه غير محمود) .
وكان المحرك للمناقشات القاضي ابن أبي دؤاد المعتزلي الذي يتعجب من إجابة الإمام بأنه لا يستند إلا لكتاب الله أو سنة رسول الله صلوات الله عليه.
ثم يدور الحوار بأسلوب جدلي إذ يتعرض القاضي لبعض الآيات القرآنية لاستخراج معنى الخلق كقوله تعالى:(مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ)[الأنبياء، الآية: ٢] ، ومن صيغة السؤال الموجه للإمام أحمد، حاول ابن أبي دؤاد الوصول إلى إجابة ملزمة، فسأل (أفيكون محدث إلا مخلوق) ؟ فأجاب ابن حنبل قال تعالى:(ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ)[ص، الآية: ١] فالذكر هو القرآن، ويحتمل أن يكون ذكرًا آخر غير القرآن، وهو ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو وعظه إياهم.
فسأل القاضي: أليس الله قال: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)[الزمر، الآية: ٦٢] فأجاب ابن حنبل: قد قال: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ)[الأحقاف، الآية: ٢٥] فدمرت إلا ما أراد الله.
وعندما سئل مرة أخرى (أتقول إن القرآن مخلوق) ؟ قال ابن حنبل:(القرآن كلام الله لا أزيد على هذا) ، فعاد فسأله:(ما تقول في كلام الله) ؟ فأعاد إليه الإمام أحمد السؤال بصيغة أخرى (ما تقول في علم الله) ؟
وكانت هذه الحجة مفحمة لابن أبي دؤاد، لأن الإقرار بأن القرآن علم الله يعادل في نظره أن القرآن جزء لا ينفصل عن علم الله تعالى، فإذا قالوا بأن هذا العلم غير مخلوق، فالقرآن تبعًا لذلك ينبغي أن يكون غير مخلوق.
ودفع عبد الرحمن بن إسحاق القاضي المناقشة إلى نقطة أبعد من ذلك وهي (أكان الله ولا قرآن؟) فرد الإمام بحجة مماثلة (أكان الله ولا علم؟) ويعبر لنا ابن إسحاق عن رأي المعتزلة بسؤاله ابن حنبل (ما تقول في هذه الرقعة) ؟ (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[الشورى، الآية: ١١] وقد لاحت عندئذ الفرصة لانتقال الامتحان إلى مسألة جديدة وهي المتصلة بصفات الله سبحانه - وعلى رأي المعتزلة غير منفصلة عن الذات الإلهية أي: أنهم يقولون بأن الله تعالى حي بذاته، قادر بذاته،