للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عقيدة رسمية. واتخذ موضوع (خلق القرآن) شعارًا لذلك. وجاراه في هذه الخليفتان التاليان المعتصم والواثق، وقضى المسلمون ما يقرب من نصف قرن في قلق فكري، وجدل متواصل، وامتحان لبعض الأئمة وقادة الرأي، لم يسلم فيه بعضهم من السجن والتعذيب والقتل) (١) .

وقد أثبت أستاذنا الدكتور إبراهيم مدكور في دراسته عن المحنة أن بطلها بلا منازع كان الإمام أحمد بن حنبل الذي أبى أن يجاري الحكام فيما ذهبوا إليه، أو أن يأخذ بالتقية في أمر يمس العقيدة، لأنه كان يرى أنه (إذا أجاب العالم تقية، والجاهل بجهل، فمتى يتبين الحق؟) ولم تسكن هذه العاصفة إلا يوم أن تولى المتوكل سنة ٢٣٢ هجرية وأخذ يعالج الموقف في حذر وحكمة، واستطاع في عام ٢٣٧ أن يأمر بوقف هذا الصراع، فهدأت نفوس ثائرة، وسكنت جماهير متحركة، وأحس أنصار السلف بتأييد رسمي لهم، إلى جانب تأييد الرأي العام. ولم يلبث هؤلاء أن غلوا بدورهم في الجمود والمحافظة غلوًّا ربما زاد على غلو المعتزلة، فتطرفوا في آرائهم، واستمسكوا بحرفية النصوص، وانتقلنا من غلو عقلي إلى غلو آخر نقلي، وعلى رأس هؤلاء الغلاة جماعة الحنابلة الذين أصبح لهم نفوذ عظيم ببغداد في أخريات القرن الثالث للهجرة حتى أصبح يهدد الأمن والنظام، وقد امتد بعض الوقت.

أضف إلى ذلك أن موقف الحنابلة لم يكن طارئًا جديدًا على مسرح الأحداث، بل كان امتدادًا لمنهج علماء الحديث والفقهاء قبلهم بزمن طويل.

وكان اضطهاد المأمون لمعارضيه شاملا الحنابلة وغيرهم من أئمة السنة والحديث (٢) .

ولكننا نرى أنه مهما كان نفوذ الحنابلة في ذلك الحين، فلم يبلغ نفس النفوذ المفروض بالقوة الذي بدأ به المأمون وأتباعه أمثال بشر المريسي وابن أبي دؤاد. أضف إلى ذلك أنه لم يظهر دور الحنابلة المميز في ذلك الوقت المبكر، لأن الفقهاء والمحدثين وأتباعهم كانوا مجتمعين تحت لواء واحد ولم تظهر الفرقة بين الحنابلة


(١) د. مدكور في الفلسفة الإسلامية: منهجه وتطبيقه ج ٢ ص ١١٤.
(٢) د. مدكور في الفلسفة الإسلامية: منهجه وتطبيقه ج ٢ ص ١١٤.

<<  <   >  >>