للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولكن المشاهد في أحوال كثيرة أن من الناس من يعلم أن شيئًا يضره ومع ذلك يفعله، ويعلم أن شيئًا ينفعه ومع ذلك يتركه، فما تعليل ذلك؟

ويرى شيخ الإسلام أن ذلك عارض ما في نفسه من طلب لذة أخرى أو دفع ألم آخر، فأصبح جاهلاً، حيث قدم هذا على ذلك ولهذا قال أبو العالية (متوفى ٩٠ هـ) (وهو من كبار التابعين) سألت أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - عن قوله تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) [النساء، الآية: ١٧] (١) فقالوا: كل من عصى الله فهو جاهل، وكل من تاب من قبل الموت فقد تاب من قريب.

وإذا عدنا إلى مبدأ الثنائية في خلق الإنسان، وعرفنا حقيقة العداء بينه وبين الشيطان، استطعنا الوقوف على أسباب أخرى للمفاسد والمعاصي لأنّ مبدأ العلم الحق والإرادة الصالحة من لمة الملك، ومبدأ الاعتقاد الباطل والإرادة الفاسدة من لمة الشيطان، وذلك تفسير قول الله تعالى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا) [البقرة، الآية: ٢٦٨] وقال تعالى أيضًا: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) [آل عمران، الآية: ١٧٥] أي يخوفكم أولياؤه.

الأصل إذن أن الله تعالى خلق عباده على الفطرة التي إن تركت على سجيتها عرفت الحق وعملت به - لأنها جُلبت على الصحة في الإدراك وفي الحركة (٢) لذلك يأتي دور الرسل عليهم السلام بتكميل الفطرة الإنسانية لا بتغييرها. قال تعالى (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) [فصلت، الآية: ٥٣] وهذا التطابق والتوافق بين آيات الله تعالى في الآفاق والأنفس يأتي متطابقًا مع الآيات القرآنية السمعية (لأن القرآن الذي أخبر به عباده حق، فتتطابق الدلالة البرهانية القرآنية والبرهانية العيانية ويتصادق موجب الشرع المنقول والنظر المعقول) .

ومما يساعد الإنسان في الوصول إلى معرفة الحق أن يهتدي بالطرق العقلية التي استخدمها القرآن الكريم والتوافق بين آيات الله تعالى في الآفاق وفي الأنفس - أي


(١) ابن تيمية: نقض المنطق ص ٢٩ - ٣٠.
(٢) ابن تيمية: منهاج السنة ج ١ ص ٨٣ والنبوات ص ٣٠٣.

<<  <   >  >>