للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بالسيف" (رواه الترمذي) (١) .

ولا نظن أننا نغالي إذا قلنا: إنهم عاشوا على أعتاب عالم الغيب وتمثلوه، كأنه عالم مشاهد حاضر أمامهم يرونه ويعيشون فيه، فكانوا يتنافسون في طلب الشهادة للانتقال من الحياة الفانية إلى الحياة الباقية، تحقيقًا للسعادة الأبدية عند ربهم عز وجل وها هو حارثة - رضي الله عنه - يسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كيف أصبحت يا حارثة؟ " قال: أصبحت مؤمنًا حقًا، قال: "انظر ما تقول؟ فإن لكل قول حقيقة قال: يا رسول الله، عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري كأني بعرش ربي عز وجل بارزًا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتعاوون فيها، قال: "الزم، عبد نور الله الإيمان في قلبه" (٢) .

فأما درجة السابقين كأبي بكر وعمر فتلك لا يبلغها أحد وقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي فعمر" وفي حديث آخر "إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه" وقال علي: "كنا نتحدث أن السكينة تنطق على لسان عمر" وفي الترمذي وغيره (لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر، ولو كان بعدي نبي ينتظر لكان عمر) .

ومع هذا فالصديق أكمل منه؛ فإن الصديق كمل في تصديقه للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يتلقى إلا عن النبي والنبي معصوم. والمحدث - كعمر - يأخذ أحيانًا عن قلبه ما يلهمه، ويحدث به، لكن قلبه ليس معصومًا. فعليه أن يعرض ما ألقي عليه على ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإن وافقه قبله، وإن خالفه رده. ولهذا رجع عمر عن أشياء، وكان الصحابة يناظرونه ويحتجون عليه، فإذا بينت له الحجة من الكتاب والسنة رجع إليها وترك ما رآه والصديق إنما يتلقى عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا عن قلبه. فهو أكمل من المحدث. وليس بعد أبي بكر الصديق أفضل منه، ولا بعد عمر محدث أفضل منه (٣) .

بعد هذا التوضيح لا نرى مزيدًا لمستزيد لتقرير كمال المنهج الذي اتبعه


(١) ابن كثير: التفسير ج ١ ص ١٣٩ ط دار الشعب.
(٢) ابن الأثير: أسد الغابة في معرفة الصحابة ج ص ٤٢٥ - ٤٢٦ ط الشعب.
(٣) ابن تيمية: الرد على المنطقيين ص ٥١٣- ٥١٤.

<<  <   >  >>