وهي نفس الفكرة التي أجمع عليها العلماء المسلمون عند تأكيدهم لتوافق الآيات العيانية والسمعية، وأن أدلة الشرع هي أدلة عقلية، حيث يأتي النظر والاستدلال أيًّا كانت وسائله تبعًا للعصور والأزمنة، معضدًا للفطرة التي فطر الله الناس عليها، وبانياً على العقيدة النظم الصالحة للمجتمع الإنساني.
وهنا تظهر روعة القرآن الكريم، بل إنه أروع الكتب التي توضح العقيدة على هذا النمط وهو إلى جانب هذا، إنما يعطي الأحكام والأمثال والآيات كلها من الكون نفسه، ولهذا نطق على الإسلام اسم (الدين الكوني) أو دين الفطرة، ولهذا أيضًا يظل القرآن معجزًا أبد الدهر وتبقى حجته قوية إلى ما شاء الله (١) .
وإذا كان قيام علماء الكلام في القرون الماضية باستخدام الأدلة المنطقية والتفكير النظري السائد آنذاك، فإن ما يتصل بالقضايا التي اصطلح على تسميتها (كلامية) في تاريخ الفرق، يتصل أوثق الصلات بالآفاق التي كشف عنها العلم وتجاربه في العصور الحديثة.
ونود القول بأن الطريقة الاستدلالية التي استخدمها القرآن الكريم ظلت هي الوحيدة بين الطرق الأخرى - أي منهج الكلام والفلسفة - فهي ثابتة في نفسها كميزان عقلي متوافقة مع الاجتهادات العقلية، وتخاطب البشرية قاطبة مهما اختلفت الأزمنة والأمكنة.
وإذا أردنا إثبات ذلك بنبذة موجزة عن دليل الآفاق، فإن هذا الدليل ما زال - وسيظل - ثابتًا، لأن نواميس الله تعالى في الكون والنفس لا تتغير، وبقدر ما يمنح الله تعالى العلماء من علم لاكتشاف المجهول، بقدر ما تتسع معارفهم وعلومهم عن الكون والمخلوقات والأنفس.
وقد سبق الإشارة إلى استخدام الصحابة رضي الله عنهم طريقة الاستدلال بحدوث العالم وهي طريقة عقلية شرعية كما قال تعالى:(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ)[السجدة، الآية: ٢٧] فهذا مرئي بالعيون، وقال تعالى:(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) ثم قال