للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فيما يقدمه من رأي دقيق لإثبات عجز العقل عن إدراك ما وراء طوره في المسائل الغيبية، إذ يقول: "وليس ذلك بقادح في العقل ومداركه بل العقل ميزان صحيح فأحكامه يقينية لا كذب فيها غير أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد والآخرة وحقيقة النبوة وحقائق الصفات الإلهية وكل ما وراء طوره فإن ذلك طمع في محال، ومثال ذلك مثال رجل رأى الميزان الذي يوزن به الذهب فطمع أن يزن به الجبال، وهذا لا يدرك. على أن الميزان في أحكامه غير صادق، ولكن العقل قد يقف عنده ولا يتعدى طوره حتى يكون له أن يحيط بالله وبصفاته فإنه ذرة من ذرات الوجود الحاصل منه، وتفطن في هذا الغلط من يقدم العقل على السمع في أمثال هذه القضايا وقصور فهمه واضمحلال رأيه، فقد تبين لك الحق من ذلك (١) .

وقد أشار "ابن خلدون " في تعريفه إلى أهم النقاط المثيرة للخلاف بين علماء الكلام في دائرتي المعتزلة والأشاعرة، وبين علماء الحديث والسنة، مما جعلنا نرجح أن وراء هذه الأسطر قراءات متشعبة ومستوعبة لقضايا أصول الدين ووجهات النظر المتباينة حولها.

ويتضح أيضًا أنه أعطى الجانب النقدي اهتمامه أيضًا.

لذلك لا ينبغي أن ننسى جبهة عريضة وقفت تعارض علم الكلام في دائرة السلف من علماء الحديث على مر الأعصار وتعده من قبيل البدع الطارئة على الفكر الإسلامي وأنه أدى إلى الاضطرابات والفتن، وفتت جهود المسلمين وأجهد عقولهم في مجال كفاه القرآن والسنة. وحتى أمام وجهة النظر المدافعة عن المتكلمين بأنهم دافعوا عن الإسلام فإن الرأي المعارض - الذي يمثله ابن تيمية والجامع للاتجاه السلفي قبله - على العكس - يرى أنهم أخفقوا في هذه المهمة لأنهم لم يستندوا في أصولهم على المبادئ الاستدلالية القرآنية (فالكلام الذي ابتدعوه وزعموا أنهم به نصروا الإسلام وردوا به على أعدائه كالفلاسفة، لا الإسلام ولا لعدوه كسروا، بل كان بما ابتدعوه ما أفسدوا به حقيقة الإسلام على من اتبعهم) (٢) .


(١) المقدمة ص ٣٨٤.
(٢) ابن تيمية: شرح حديث النزول ص ١٦٣.

<<  <   >  >>