وفي مواضع أخرى تعقيبات الوحي الكريم على حرص صاحب الدعوة - صلى الله عليه وسلم - على إسلام قومه، تفيد صياغة الكلام على أته عليه السلام قد بلغ مبلغاً بعيداً في ذلك الحرص، وسيطرت عليه رغبة عارمة في هداية القوم. لذلك فإن تعقيبات الوحي في هذه المرة جاءت تحمل كمنية هائلة من الشدة، وإنكاراً قوياً لما يصدر منه. ويصور ذلك كله قوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} .
بدأ هذه الموقف من التعقيب بتسلية صاحب الدعوة - صلى الله عليه وسلم - بما ياتي:
فأولاً: أن الله يعلم من عليه حال قومه من الإعراض والصدود عن الحق.
وثانياً: أن إعراضهم وصدودهم لم يكن سببه قصوراً منه - صلى الله عليه وسلم -، ولا تكذيباً منهم له لنقص يرجع إلى الدلائل والبراهين التي أتاهم بها، بل هم يصدقونه في كل ما يقول، فليس هو في حاجة إلى دلائل جديدة لم يعرضها من قبل، أو آيات معجزة تحملهم على الإذعان والطاعة.
وثالثاً: أن السبب الحقيقي في إعراضهم وصدودهم هو العناد والجحود فهو مرض في قلوبهم، وليس عيباً أو نقصاً في أساليب الدعوة.
وبعد هذا البيان الحكيم، والتحليل الصادق للموقف يتوجه الوحي العظيم لصاحب الدعوة بهذا العتاب الهادر: وإن كَبُرَ وعظم عليك إعراضهم عنك وعن الحق الذي بعثناك به إليهم فافعل ما تريد.