قال ابن عباس:(فأخبر الله سبحانه أنه من كفر من بعد إيمانه، فعليه غضب من الله، وله عذاب عظيم، فأما من أكره فتكلم به لسانه وخالفه قلبه بالإيمان لينجو من عدوه، فلا حرج عليه، لأن الله سبحانه إنما يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم).
قال ابن جرير: حدثنا ابنُ عبد الأعلى، حدثنا محمد بن ثَور، عن مَعْمَرٍ، عن عبد الكريم الجَزرِيّ، عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال: (أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذّبوه حتى قارَبَهُم في بعض ما أرادوا، فشكا ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كيفَ تَجدُ قَلْبَكَ"؟ قال: مُطْمَئِنًّا بالإيمان. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن عادوا فَعُدْ") (١).
والثبات على الدين أفضل، وهو أغيظ للمشركين، وأرضى لله سبحانه، فمن لم يستطع فيجوز له أن يُوالي على الكفر - عند الإكراه - إبقاءً لمهجته. فهذا بلال رضي الله عنه قد ثبت على دينه رغم الأفاعيل التي كانوا يؤذونه فيها، وقد وضعوا الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر، وهو يقول: أحدٌ أحدٌ، ويأبى أن ينطق بكلمة الكفر التي تفرحهم، وكذلك حبيبُ بن زيد الأنصاري لما قال له مُسَيْلَمَةُ الكذاب: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ فيقول: نعم. فيقول: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: لا أسمع. فلم يزل يقطعه إرْبًا إرْبًا وهو ثابت على ذلك.
وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن حُذافة السهمي أحد الصحابة: (أنه أسرته الروم، فجاؤوا به إلى مَلِكهم، فقال له: تَنَصَّر وأنا أشرَكك في ملكي وأزوجك ابنتي. فقال له: لو أعطيتني جميعَ ما تملك وجميعَ ما تملكه العربُ على أن أرجِعَ عن دين محمد - صلى الله عليه وسلم - طرفةَ عين ما فعلمتُ! فقال: إذن أقتلك. قال: أنت وذاك! قال: فَأمرَ به فَصُلِبَ، وأمر الرماة فرَموه قريبًا من يديه ورِجْلَيْه، وهو يعرض عليه دين النصرانية فيأبى، ثم أمر به فَأُنزل، ثم أمر بقدر - وفي رواية: ببقرة من نحاس - فَأُحْميت، وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر، فإذا هو عظامٌ تلوحُ. وعَرَض عليه فأبى، فأمر به أن يُلقى فيها، فرفع في البكْرَةِ لِيُلْقَى، فبكى، فطمع فيه ودعاه فقال له: إني إنما بكيت
(١) أخرجه الطبري (٢١٩٤٦)، وأخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" (١٥٠٩)، والحاكم (٢/ ٣٥٧) والبيهقي (٢/ ٢٠٨ - ٢٠٩)، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وله شواهد في كتب السير. فالخبر بمجموع طرقه - وإن كان بعضها مرسلًا - يتقوى، والله تعالى أعلم.