رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على أصحابه فقرأ عليهم "سورة الرحمن" من أولها إلى آخرها، فسكتوا، فقال: لقد قرأتها، سورة "الرحمن" على الجِنّ ليلةَ الجنِّ، فكانوا أَحْسَنَ مَرْدودًا منكمُ، كنتُ كُلَّما أتيت على قوله:{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، قالوا: لا بشيءٍ من نعمِكَ ربَّنا نكذِّبُ، فلكَ الحمد] (١).
وقوله:{يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}. قال ابن جرير:(يتغمد لكم ربكم من ذنوبكم فيسترها لكم ولا يفضحكم بها في الآخرة بعقوبته إياكم عليها. . . . وينقذكم من عذاب موجع إذا تبتم من ذنوبكم، وأنبتم من كفركم إلى الإيمان باللَّه وبداعيه).
وذهب أبو حنيفة أن لا ثواب للجن إلا النجاة من النار لهذه الآية، وهو مذهب بعيد مردود. قال مالك والشافعي وابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد:(لهم الثواب والعقاب). وقال الضحاك:(الجن يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون). واستدل بقوله تعالى:{لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ}[الرحمن: ٥٦]. قال ابن كثير:(وأحسن منه قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: ٤٦ - ٤٧]. فقد امتنَّ تعالى على الثقلين بأن جعل جزاءَ مُحْسِنهِم الجنة، وقد قابلت الجنّ هذه الآية بالشكر القولي أبلغ من الإنس، فقالوا: ولا بشيء من آلائك ربَّنا نكذب، فلك الحمد. فلم يكن تعالى ليمتن عليهم بجزاء لا يحصل لهم، وأيضًا فإنه إذا كان يُجازي كافرهم بالنار -وهو مقامُ عَدْلٍ- فلأن يجازي مؤمنهم بالجنة -وهو مقامُ فَضْل- بطريق الأولى والأحرى).
وقوله:{وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ}. أي: لا يفوت اللَّه ولا يسبقه، بل قدرة اللَّه تناله وتشمله.
وقوله:{وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ}. أي: وليس له أنصار وأعوان يمنعونه من عذاب اللَّه وحلول نقمته.
وقوله:{أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}. تهديد وترهيب. أي: ومن أعرض عن داعي الحق واستكبر على اللَّه ورسله فقد خاض في أوحال الضلال البين العاقبة.
(١) حسن لشواهده. أخرجه الترمذي في "سننه" (٢/ ٢٣٤)، والحاكم (٢/ ٤٧٣)، وأخرجه البزار (٢٢١ - ٢٢٢ زوائد)، وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة (٢١٣٠).