للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ما رأيتَ. فلما وَلَّيتُ دعاني فقال: ما هُو إلا ما رأيت، غير أني لا أجِدُ في نفسي لأحد من المسلمين غِشًّا، ولا أحسُد أحدًا على خيرٍ أعطاهُ اللَّه إياه. قال عبد اللَّه: "هذه التي بَلَغَت بكَ، وهي التي لا نُطيق"] (١).

وقوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}. يعني: حاجَة.

وأصل الخصاصة من الاختصاص، وهو الانفراد في الأمر. قال القرطبي: (فالخصاصة الانفراد بالحاجة، أي ولو كان بهم فاقة وحاجة). وأما الإيثار فهو تقديم الآخرين على النفس وحظوظها الدنيوية، رغبة في الحظوظ الدينية. وينشأ ذلك عن قوة اليقين، وتوكيد المحبة، والصبر على المشقة. فهذه الخصلة الرفيعة قد وصف اللَّه تعالى بها الأنصار، فهم يقذمون المحاويج على حاجة أنفسهم.

أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه: [أنَّ رجلًا أتى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فبعث إلى نسائه فقلن ما معنا إلا الماء. (وفي لفظ: أتى رجلٌ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: يا رسول اللَّه! أصابني الجَهْدُ. فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئًا). فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: من يضمّ أو يضيف هذا؟ فقال رجل من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته فقال: أكرمي ضيف رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني. فقال: هيئي طعامك وأصبحي سراجك ونوّمي صبيانك إذا أرادوا عشاء. فهيأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونوّمت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته فجعلا يُريانه كأنهما يأكلان، فباتا طاويين. فلما أصبح غدا إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: ضحك اللَّه الليلة أو عجب من فعالكما، فأنزل اللَّه: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}] (٢).

وقوله: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. أي: مَنْ سَلِمَ مِنَ الشّح فقد أَفْلَح وأَنْجحَ. والشّح: البخل، ومنع الفضل من المال. والشحيح: البخيل. قال ابن زيد: (من وقي شحّ نفسه فلم يأخذ من الحرام شيئًا، ولم يقربه، ولم يدعه الشّح أن يحبس من الحلال شيئًا، فهو من المفلحين، كما قال اللَّه عز وجل). وفي رواية عنه: (من لم يأخذ شيئًا لشيء نهاه اللَّه عز وجل عنه، ولم يدعه الشحّ على أن يمنع شيئًا من


(١) حديث صحيح. أخرجه أحمد (٣/ ١٦٦)، والنسائي في "الكبرى" (١٠٦٩٩) بسند على شرطهما.
(٢) حديث صحيح. أخرجه البخاري (٣٧٩٨)، (٤٨٨٩)، وأخرجه مسلم (٢٠٥٤) ح (١٧٢)، (١٧٣)، والترمذي (٣٣٠٤)، والنسائي في "التفسير" (٦٠٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>