للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى … ﴾ إلى آخر الآية. وقالت الأنصار: هي أول ظعينة قدمت علينا (١). وقد رواه الحاكم في مستدركه من حديث سفيان بن عيينة. ثم قال: صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه، وقد روى ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أُم سلمة، قالت: آخر آية نزلت هذه الآية: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ … ﴾ إلى آخرها، رواه ابن مردويه (٢)، ومعنى الآية أن المؤمنين ذوي الألباب لما سألوا [ما سألوا] (٣) مما تقدم ذكره فاستجاب لهم ربهم عقب ذلك بفاء التعقيب، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦)[البقرة] وقوله تعالى: ﴿أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾ هذا تفسير للإجابة، أي قال لهم مجيبًا لهم أنه لا يضيع عمل عامل منكم لديه، بل يوفى كل عامل بقسط عمله من ذكر أو أنثى، وقوله: ﴿بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ أي: جميعكم في ثوابي سواء، ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا﴾ أي: تركوا دار الشرك وأتوا إلى دار الإيمان وفارقوا الأحباب والإخوان والخلان والجيران، ﴿وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ أي: ضايقهم المشركون بالأذى حتى ألجؤوهم إلى الخروج من بين أظهرهم، ولهذا قال: ﴿وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي﴾ أي: إنما كان ذنبهم إلى الناس أنهم آمنوا بالله وحده، كما قال تعالى: ﴿يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ﴾ [الممتحنة: ١] وقال تعالى: ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨)[البروج] وقوله تعالى: ﴿وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا﴾ وهذا أعلى المقامات أن يقاتل في سبيل الله فيعقر جواده ويعفر وجهه بدمه وترابه.

وقد ثبت في الصحيحين أن رجلًا قال: يا رسول الله، أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرًا محتسبًا مقبلًا غير مدبر، أيكفر الله عني خطاياي؟ قال: "نعم"، ثم قال: "كيف قلت؟ فأعاد عليه ما قال، فقال: نعم، إلا الدّين، قاله لي جبريل آنفًا" (٤). ولهذا قال تعالى: ﴿لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ أي: تجري في خلالها الأنهار من أنواع المشارب من لبن وعسل وخمر وماء غير آسن، وغير ذلك مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

وقوله: ﴿ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ أضافه إليه ونسبه إليه ليدل على أنه عظيم، لأن العظيم الكريم لا يعطي إلا جزيلًا كثيرًا، كما قال الشاعر:

إن يعذب يكن غرامًا وإن … يُعط جزيلًا فإنه لا يبالي


(١) أخرجه سعيد بن منصور بسنده ومتنه (السنن، كتاب التفسير ٣/ ١١٣٦ ح ٥٥٢)، وأخرجه الترمذي (السنن، التفسير، باب ومن سورة النساء ح ٢٠٢٣)، والحاكم (المستدرك ٢/ ٣٠٠) كلاهما من طريق سفيان بن عيينة به وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وقال الألباني: صحيح بما قبله (صحيح سنن الترمذي ح ٢٤٢٠) ويقصد بما قبله طريق مجاهد عن أُم سلمة التالي.
(٢) أخرجه الطبري والحاكم كلاهما من طريق ابن أبي نجيج به وصححه الحاكم ووافقه الذهبي (المستدرك ٢/ ٤١٦) وصححه أحمد شاكر في تحقيقه لتفسير الطبري.
(٣) سقط في الأصل، واستدرك من (عف) و (ح) و (حم) و (مح).
(٤) أخرجه مسلم من حديث أبي قتادة (الصحيح، الإمارة، باب من قتل في سبيل الله كُفرت خطاياه إلا الدين ح ١٨٨٥).