للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

(وأخبرني) (١) يوسف بن ماهك قال: إني عند عائشة أم المؤمنين إذ جاءها عراقي فقال: أي الكفن خير؟ قالت: ويحك ما يضرك؟ قال: يا أم المؤمنين أريني مصحفك، فقالت: لم؟ قال: لعلي أؤلف القرآن عليه فإنه يقرأ غير مؤلف، قالت: وما يضرك أَيُّهُ قرأت قبل؟ إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول (شيء) (٢): لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا، ولو نزل لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدًا. لقد نزل بمكة على محمد وإني لجارية ألعب ﴿بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (٤٦)[القمر] وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده، قال: فأخرجت له المصحف فأملت عليه آي السور.

والمراد من التأليف ههنا ترتيب سوره؛ وهذا العراقي سأل أولًا عن أي الكفن خير أو أفضل، فأخبرته عائشة أن هذا مما لا ينبغي أن يعتنى (٣) بالسؤال عنه ولا القصد له ولا الاستعداد له، فإن في هذا تكلفًا لا طائل تحته، وكانوا في ذلك الزمان يصفون أهل العراق بالتعنت في الأسئلة، كما سأل بعضهم (٤) عبد الله بن عمر عن دم البعوض [يصيب الثوب، فقال ابن عمر: انظروا إلى أهل العراق يسألون عن دم البعوض] (٥) وقد قتلوا ابن بنت رسول الله !! ولهذا لم تبالغ معه عائشة في الكلام؛ لئلا يظن أن ذلك أمر مهم (٦)، وإلا:

فقد روى أحمد (٧) وأهل السنن من حديث سمرة وابن عباس، عن رسول الله قال: "البسوا


(١) كذا أداة التحمل مسبوقة بواو العطف، قال الحافظ في "الفتح" (٩/ ٣٩). "كذا عندهم، وما عرفت ماذا عطف عليه، ثم رأيت الواو ساقطة في رواية النسفي وما وقفت عليه من طرق هذا الحديث". اهـ فتعقبه البدر العيني، كعادته، في "العمدة" (٢٠/ ٢٢) فقال: "وقال بعضهم، وهو يعني: الحافظ، ما عرفت. . . إلخ قلت: يجوز أن يكون معطوفًا على محذوف تقديره أن يقال: قال ابن جريج: أخبرني فلان بكذا وأخبرني يوسف بن ماهك .. " إلى آخره. انتهى كلام البدر، ولا يخفى ما فيه؛ لأن الحافظ قصد أنه ما وقف على رواية تعين له من الذي عناه ابن جريج لما قال: "وأخبرني" وهذا التجويز الذي ذكره العيني لا يعجز عن تقديره الطالب المبتدئ، فكيف بالحافظ ابن حجر؟ وقد ظهر لي جليًا حرص البدر العيني على تعقب الحافظ ما أمكنه ذلك، ولو بأوهى التعقبات، وذلك أثناء تصنيفي لكتاب "صفو الكدر في المحاكمة بين العيني وابن حجر" وهو خاص بالمسائل الحديثية وما يلتحق بها من أصول ونحوه. فالله المسؤول أن يغفر لنا وإياهم. إنه جواد كريم.
(٢) في (أ): "شيء نزل"؛ وزيادة "نزل" مقحمة لا معنى لها.
(٣) ولهذا كانوا يصرفون السائل إلى ما ينفعه، ومثاله ما رواه الشيخان، عن أنس أن رجلًا سأل النبي فقال: متى الساعة؟ فقال له: "وما أعددت لها؟ ". فانظر يرحمك الله كيف صرفه عن السؤال الذي لا طائل تحته، ووجهه إلى ما ينبغي له أن يعتني به. وهكذا فليكن الدعاة إلى الله تعالى مع الناس.
(٤) يشير إلى الحديث الذي رواه البخاري في (ح) صحيحه (٧/ ٩٥، ١٠/ ٤٢٦)؛ وفي "الأدب المفرد" (٨٥)؛ والنسائي في "الخصائص" (١٤١)؛ والترمذي (٣٧٧٠) وغيرهم من طريق محمد بن أبي يعقوب، عن عبد الرحمن بن أبي نعيم؛ قال: كنت شاهدًا لابن عمر وسأله رجل عن دم البعوض؟ فقال: ممن أنت؟ قال: من أهل العراق! قال: انظروا إلى هذا؛ يسألني عن دم البعوض، وقد قتلوا ابن النبي ، وسمعت النبي يقول: "هما ريحانتاي من الدنيا".
(٥) ساقط من (ج).
(٦) وهذا أصل مهم جدًا من أصول الدعوة، فتأمله.
(٧) أما حديث ابن عباس، فأخرجه أحمد (١/ ٢٣١، ٢٤٧، ٣٢٨، ٣٥٥، ٣٦٣)؛ وأبو داود (٣٨٧٨)؛ =