للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

عبد الله ورسوله، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله ﷿ (١) تفرد به من هذا الوجه.

وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾ أي: لا تفتروا عليه وتجعلوا له صاحبة وولدًا، تعالى الله ﷿ عن ذلك علوًا كبيرًا، وتنزه وتقدس وتوحد في سؤدده وكبريائه وعظمته، فلا إله إلا هو، ولا رب سواه، ولهذا قال: ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ أي: إنما هو عبد من عباد الله وخلق من خلقه، قال له: كن فكان، ورسول من رسله وكلمته ألقاها إلى مريم، أي خلقه بالكلمة التي أرسل بها جبريل إلى مريم فنفخ فيها من روحه بإذن ربه ﷿، فكان عيسى بإذنه ﷿، وكانت تلك النفخة التي نفخها في جيب درعها، فنزلت حتى ولجت فرجها بمنزلة لقاح الأب والأم، والجميع مخلوق الله ﷿، ولهذا قيل لعيسى: إنه كلمة الله وروح منه، لأنه لم يكن له أب تولد منه، وإنما هو ناشئ عن الكلمة التي قال له بها: ﴿كُنْ﴾ [آل عمران: ٥٩] فكان، والروح التي أرسل بها جبريل قال الله تعالى: ﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ﴾ [المائدة: ٧٥]. وقال تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩)[آل عمران: ٥٩] وقال تعالى: ﴿وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (٩١)[الأنبياء] وقال تعالى: ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (١٢)[التحريم] وقال تعالى إخبارًا عن المسيح: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (٥٩)﴾ الآية [الزخرف].

وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة ﴿وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ هو قوله: ﴿كُنْ﴾ [آل عمران: ٥٩] فكان (٢). وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان الواسطي قال: سمعت [شاذ] (٣) بن يحيى يقول في قول الله: ﴿وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ قال: ليس الكلمة صارت عيسى ولكن بالكلمة صار عيسى (٤).

وهذا أحسن مما ادعاه ابن جرير في قوله: ﴿أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ﴾ أي: أعلمها بها، كما زعمه في قوله: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ﴾ [آل عمران: ٤٥] أي: يعلمك بكلمة منه ويجعل ذلك كقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾ [القصص: ٨٦] بل الصحيح أنها الكلمة التي جاء بها جبريل إلى مريم، فنفخ فيها بإذن الله فكان عيسى .

وقال البخاري: حدثنا صدقة بن الفضل، حدثنا الوليد، حدثنا الأوزاعي، حدثني عمير بن


(١) أخرجه الإمام أحمد بسنده ومتنه (المسند ٣/ ١٥٣)، وأخرجه ابن حبان من طريق حماد به (الإحسان ١٤/ ١٣٣ ح ٦٢٤٠)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (ح ١٠٩٧).
(٢) أخرجه عبد الرزاق بسنده ومتنه، وسنده صحيح.
(٣) كذا في (حم) و (مح) وتفسير ابن أبي حاتم، وفي الأصل: "ساد" وهو تصحيف.
(٤) أخرجه ابن أبي حاتم بسنده ومتنه وسنده إلى شاذ صحيح وإن كان مجهولًا كما في التقريب، وقد سأل أبو داود الإمام أحمد فقال: عرفته، وذكره بخير (تهذيب التهذيب ٤/ ٢٩٩ - ٣٠٠).