للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قُلُوبُهُمْ﴾ أي: أظهروا الإيمان بألسنتهم، وقلوبهم خراب خاوية منه، وهؤلاء هم المنافقون ﴿وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾ أعداء الإسلام وأهله، وهؤلاء كلهم ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ﴾ أي: مستجيبون له، منفعلون عنه، ﴿سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ﴾ أي: يستجيبون لأقوام آخرين لا يأتون مجلسك يا محمد، وقيل: المراد أنهم يتسمعون الكلام وينهونه إلى قوم آخرين ممن لا يحضر عندك من أعدائك ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ﴾ أي: يتأوّلونه على غير تأويله، ويبدلونه من بعد ما عقلوه، وهم يعلمون، ﴿يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا﴾ قيل: نزلت في قوم من اليهود قتلوا قتيلًا، وقالوا: تعالوا حتى نتحاكم إلى محمد، فإن حكم بالدية فاقبلوه، وإن حكم بالقصاص فلا تسمعوا منه، والصحيح أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا وكانوا قد بدلوا كتاب اللّه الذي بأيديهم من الأمر برجم من أحصن منهم، فحرفوه واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة، والتحميم والإركاب على حمار مقلوبين، فلما وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة قالوا فيما بينهم: تعالوا حتى نتحاكم إليه، فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه واجعلوه حجة بينكم وبين اللّه، ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم بينكم بذلك، وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه في ذلك.

وقد وردت الأحاديث في ذلك فقال مالك، عن نافع، عن عبد اللّه بن عمر : أن اليهود جاؤوا إلى رسول اللّه فذكروا له أن رجلًا منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول اللّه : "ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ " فقالوا: نفضحهم ويجلدون، قال عبد اللّه بن سلام: كذبتم، إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد اللّه بن سلام: ارفع يدك فرفع يده، فإذا آية الرجم، فقالوا: صدق يا محمد فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول اللّه فرجما، فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة (١)، أخرجاه، وهذا لفظ البخاري وفي لفظ له: فقال لليهود: "ما تصنعون بهما؟ " قالوا: نسخم وجوههما ونخزيهما، قال: ﴿فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [آل عمران: ٩٣] فجاؤوا فقالوا لرجل منهم ممن يرضون أعور: اقرأ فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها، فوضع يده عليه فقال: ارفع يدك فرفع، فإذا آية الرجم تلوح، قال: يا محمد إن فيها آية الرجم ولكنا نتكاتمه بيننا، فأمر بهما فرجما (٢).

وعند مسلم أن رسول أتي بيهودي ويهودية قد زنيا، فانطلق رسول اللّه حتى جاء يهود فقال: "ما تجدون في التوراة على من زنى؟ " قالوا: نسود وجوههما ونحممهما، ونحملهما ونخالف بين وجوههما ويطاف بهما. قال: ﴿فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ قال: فجاؤوا بها فقرؤوها حتى إذا مرّ بآية الرجم، وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم، وقرأ ما بين يديها وما وراءها، فقال له عبد اللّه بن سلام وهو مع رسول اللّه : مُره فليرفع يده فرفع يده، فإذا تحتها آية الرجم، فأمر بهما رسول اللّه فرجما. قال عبد الله بن عمر: كنت فيمن رجمهما، فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه (٣).


(١) الموطأ، الحدود، باب ما جاء في الرجم (ح ١)، وصحيح البخاري، المناقب باب قول اللّه تعالى: ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ … ﴾ [البقرة: ١٤٦] (ح ٣٦٣٥)، وصحيح مسلم، الحدود، باب رجم اليهود … (ح ٢٧/ ١٦٩٩).
(٢) صحيح البخاري، التوحيد، باب ما يجوز من تفسير التوراة من كتب الله بالعربية وغيرها (ح ٧٥٤٣).
(٣) صحيح مسلم، الحدود، باب رجم اليهود … (ح ٢٦/ ١٦٩٩).