للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقوله: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾ قال ابن أبي حاتم: حَدَّثَنَا علي بن الحسن الهسنجاني، حَدَّثَنَا سعيد بن الحكم بن أبي مريم، حَدَّثَنَا الفضل، حدثني أبو صخر في قول الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾ قال: هو قول اليهود عزير ابن الله، وقول النصارى: المسيح ابن الله، فجعلوا الله ثالث ثلاثة (١). وهذا قول غريب في تفسير الآية أن المراد بذلك طائفتا اليهود والنصارى، والصحيح أنها نزلت في النصارى خاصة، قاله مجاهد (٢) وغير واحد، ثم اختلفوا في ذلك فقيل: المراد بذلك كفارهم في قولهم بالأقانيم الثلاثة: وهو أقنوم الأب، وأقنوم الابن، وأقنوم الكلمة المنبثقة من الأب إلى الابن، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا. قال ابن جرير وغيره: والطوائف الثلاثة من الملكية واليعقوبية والنسطورية تقول بهذه الأقانيم (٣)، وهم مختلفون فيها اختلافًا متباينًا ليس هذا موضع بسطه، وكل فرقة منهم تكفر الأخرى، والحق أن الثلاثة كافرة.

وقال السدي وغيره: نزلت في جعلهم المسيح وأمه إلهين مع الله، فجعلوا الله ثالث ثلاثة (٤) بهذا الاعتبار، قال السدي: وهي كقوله تعالى في آخر السورة ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ﴾ الآية [المائدة: ١١٦] وهذا القول هو الأظهر - واللّه أعلم - قال الله تعالى: ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ أي: ليس متعددًا بل هو وحده لا شريك له، إله جميع الكائنات وسائر الموجودات، ثم قال تعالى متوعدًا لهم ومتهددًا ﴿وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ﴾ أي: من هذا الافتراء والكذب ﴿لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي: في الآخرة من الأغلال والنكال،

ثم قال: ﴿أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤)﴾ وهذا من كرمه تعالى وجوده ولطفه ورحمته بخلقه مع هذا الذنب العظيم، وهذا الافتراء والكذب والإفك، يدعوهم إلى التوبة والمغفرة، فكل من تاب إليه تاب عليه.

وقوله تعالى: ﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ أي: له سوية أمثاله من سائر المرسلين المتقدمين عليه، وأنه عبد من عباد الله ورسول من رسله الكرام، كما قال: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (٥٩)[الزخرف: ٥٩].

وقوله ﴿وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾ أي: مؤمنة به مصدقة له، وهذا أعلى مقاماتها، فدل على أنها ليست بنبية كما زعمه ابن حزم وغيره ممن ذهب إلى نبوة [سارة] (٥) أُم إسحاق، ونبوة أم موسى، ونبوة أم عيسى، استدلالًا منهم بخطاب الملائكة لسارة ومريم، وبقوله: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾ [القصص: ٧] وهذا معنى النبوة، والذي عليه الجمهور أن الله لم يبعث نبيًا إلا من الرجال، قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾ [يوسف: ١٠٩] وقد حكى الشيخ أبو الحسن الأشعري الإجماع على ذلك.


(١) أخرجه ابن أبي حاتم بسنده ومتنه، الفضل هو ابن فضالة، وسنده صحيح.
(٢) أخرجه ابن أبي حاتم بسند صحيح من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد.
(٣) ذكره الطبري بنحوه (التفسير ١٠/ ٤٨٢ ط. شاكر).
(٤) أخرجه الطبري وابن أبي حاتم بسند حسن من طريق أسباط عن السدي.
(٥) كذا في (حم) و (مح) وفي الأصل: "سارية" وهو تصحيف.