للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فترتب، وهو أنهم عموا عن الحق وصموا فلا يسمعون حقًّا ولا يهتدون إليه، ثم تاب الله عليهم؛ أي: مما كانوا فيه، ثم ﴿عَمُوا وَصَمُّوا﴾ أي: بعد ذلك، ﴿كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ أي: مطلع عليهم وعليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية.

﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (٧٢) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥)﴾.

يقول تعالى حاكمًا بتكفير فرق النصارى من الملكية واليعقوبية والنسطورية (١)، ممن قال منهم: بأن المسيح هو الله، تعالى الله عن قولهم وتنزه وتقدس علوًا كبيرًا، هذا وقد تقدم لهم أن المسيح عبد الله ورسوله، وكان أول كلمة نطق وهو صغير في المهد أن قال: إني عبد الله، ولم يقل أنا الله ولا ابن الله، بل قال: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾ إلى أن قال: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦)[مريم] وكذلك قال لهم في حال كهولته ونبوته آمرًا لهم بعبادة ربه وربهم، وحده لا شريك له، ولهذا قال تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ﴾ أي: فيعبد معه غيره ﴿فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ﴾ أي: فقد أوجب له النار وحرم عليه الجنة كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: ٤٨]. وقال تعالى: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (٥٠)[الأعراف] وفي الصحيح أن النَّبِيّ بعث مناديًا ينادي في الناس: إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة، وفي لفظ: مؤمنة (٢).

وتقدم في أول سورة النساء عند قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ [٤٨] حديث يزيد بن بابنوس عن عائشة: الدواوين ثلاثة، فذكر منه ديوانًا لا يغفره الله، وهو الشرك بالله، قال الله تعالى: ﴿مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ﴾، والحديث في مسند أحمد (٣)، ولهذا قال تعالى إخبارًا عن المسيح أنه قال لبني إسرائيل: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ أي: وما له عند الله ناصر ولا معين ولا منقذ مما هو فيه.


(١) تقدم التعريف بهذه الطوائف.
(٢) صحيح البخاري، الرقاق، باب الحشر (ح ٦٥٢٨).
(٣) تقدم في تفسير سورة النساء آية ٤٨ في الحديث الشريف الأول.