للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فلما قرأ رسول الله عليهم القرآن، آمنوا وفاضت أعينهم، فقال رسول الله : "لعلكم إذا رجعتم إلى أرضكم انتقلتم إلى دينكم" فقالوا: لن ننتقل عن ديننا، فأنزل الله ذلك من قولهم: ﴿وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤)(١).

وهذا الصنف من النصارى هم المذكورون في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ﴾ الآية [آل عمران: ١٩٩] وهم الذين قال الله فيهم: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣)﴾ إلى قوله: ﴿لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾ [القصص: ٥٢ - ٥٥] ولهذا قال تعالى ههنا: ﴿فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ أي: فجزاهم على إيمانهم وتصديقهم واعترافهم بالحق ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي: ماكثين فيها أبدًا لا يحولون ولا يزولون ﴿ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ﴾ أي: في اتباعهم الحق وانقيادهم له حيث كان وأين كان ومع من كان،

ثم أخبر عن حالٌ الأشقياء فقال: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ أي: جحدوا بها وخالفوها، ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ أي: هم أهلها والداخلون فيها.

﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨)﴾.

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في رهط من أصحاب النَّبِيّ ، قالوا: نقطع مذاكيرنا، ونترك شهوات الدنيا، ونسيح في الأرض كما يفعل الرهبان، فبلغ ذلك النَّبِيّ ، فأرسل إليهم فذكر لهم ذلك، فقالوا: نعم، فقال النَّبِيّ : "لكني أصوم وأفطر، وأصلي، وأنام، وأنكح النساء، فمن أخذ بسنتي فهو مني، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني" رواه ابن أبي حاتم (٢)، وروى ابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس نحو ذلك (٣)، وفي الصحيحين عن عائشة أن ناسًا من أصحاب رسول الله سألوا أزواج النَّبِيّ عن عمله في السر فقال بعضهم: لا آكل اللحم. وقال بعضهم: لا أتزوج النساء. وقال بعضهم: لا أنام على الفراش. فبلغ ذلك النَّبِيّ فقال: "ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا، لكني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" (٤).

وقال ابن أبي حاتم: حَدَّثَنَا أحمد بن عصام الأنصاري، حَدَّثَنَا أبو عاصم الضحاك بن مخلد،


(١) أخرجه الطبراني بسنده ومتنه بدون ذكر الآية في آخره (المعجم الكبير ١٢/ ٥٥ ح ١٢٤٥٥)، قال الهيثمي وفيه: العباس بن الفضل الأنصاري وهو ضعيف (المجمع ٧/ ١٨)، بل هو متروك اتهمه أبو زرعة (التقريب ١/ ٥٠٢ وتهذيب الكمال ١٧/ ٤٧٤).
(٢) أخرجه ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي طلحة به وسنده ضعيف لأنَّهُ ليست من الصحيفة، لأن الصحيفة خالية من الأحاديث المرفوعة كما نقلها السيوطي في الإتقان، وسبب الضعف الانقطاع بين ابن أبي طلحة وابن عباس، ولكن له شواهد تأتي، فيكون سنده حسنًا لغيره.
(٣) سنده ضعيف ويشهد له ما يليه في الصحيحين.
(٤) أخرجه البخاري من حديث أنس بن مالك (الصحيح، النكاح، باب الترغيب في النكاح ح ٥٠٦٣)، وأخرجه مسلم (الصحيح، النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ح ١٤٠١).