للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقال أسباط، عن السدي في قوله. ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧)﴾ وذلك أن رسول الله جلس يومًا فذكر الناس، ثم قام ولم يزدهم على التخويف، فقال ناس من أصحاب النَّبِيّ : كانوا عشرة منهم علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون: ما حقنا إن لم نحدث عملًا، فإن النصارى قد حرموا على أنفسهم فنحن نحرم، فحرم بعضهم أن يأكل اللحم والودك، وأن يأكل بالنهار، وحرم بعضهم النوم، وحرم بعضهم النساء، فكان عثمان بن مظعون ممن حرم النساء فكان لا يدنو من أهله ولا يدنون منه، فأتت امرأته عائشة وكان يقال لها الحولاء، فقالت لها عائشة ومن عندها من أزواج النَّبِيّ : ما بالك يا حولاء متغيرة اللون، لا تمتشطين ولا تتطيبين؟ فقالت: وكيف أمتشط وأتطيب وما وقع علي زوجي، وما وقع عني ثوبًا منذ كذا وكذا؟ قال: فجعلن يضحكن من كلامها، فدخل رسول الله وهن يضحكن، فقال: "ما يضحككن؟ " قالت: يا رسول الله إن الحولاء سألتها عن أمرها. فقالت: ما رفع عني زوجي ثوبًا منذ كذا وكذا، فأرسل إليه فدعاه فقال: "ما لك يا عثمان؟ " قال: إني تركته لله لكي أتخلى للعبادة، وقص عليه أمره، وكان عثمان قد أراد أن يجبّ نفسه، فقال رسول الله : "أقسمت عليك إلا رجعت فواقعت أهلك". فقال: يا رسول الله إني صائم. فقال: "أفطر" فأفطر وأتى أهله، فرجعت الحولاء إلى عائشة وقد امتشطت واكتحلت وتطيبت، فضحكت عائشة وقالت: ما لك يا حولاء؟ فقالت: إنه أتاها أمس.

وقال رسول الله : "ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والنوم، ألا إني أنام وأقوم وأفطر وأصوم وأنكح النساء، فمن رغب عني فليس مني" فنزلت ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا﴾ يقول لعثمان: لا تجبّ نفسك، فإن هذا هو الاعتداء، وأمرهم أن يكفروا عن أيمانهم فقال: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ﴾ [المائدة: ٨٩] رواه ابن جرير (١).

وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَعْتَدُوا﴾ يحتمل أن يكون المراد منه ولا تبالغوا في التضييق على أنفسكم بتحريم المباحات عليكم، كما قاله من قاله من السلف، ويحتمل أن يكون المراد كما لا تحرموا الحلال فلا تعتدوا في تناول الحلال، بل خذوا منه بقدر كفايتكم وحاجتكم ولا تجاوزوا الحد فيه: كما قال تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا﴾ [الأعراف: ٣١] وقال: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (٦٧)[الفرقان: ٦٧] فشرع الله عدل بين الغالي فيه والجافي عنه، لا إفراط ولا تفريط، ولهذا قال: ﴿لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾

ثم قال: ﴿وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا﴾ أي: في حال كونه حلالًا طيبًا ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ أي: في جميع أموركم، واتبعوا طاعته ورضوانه، واتركوا مخالفته وعصيانه ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾.


(١) أخرجه الطبري بطوله بسند حسن من طريق أسباط عن السدي لكنه مرسل.