للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم" الحديث (١)، ووجه الجمع على هذا، أنه تعالى خلقهم ليكون منهم مؤمن وكافر في ثاني الحال، وإن كان قد فطر الخلق كلّهم على معرفته وتوحيده والعلم بأنه لا إله غيره، كما أخذ عليهم الميثاق بذلك وجعله في غرائزهم وفطرهم، ومع هذا قدّر أن منهم شقيًا ومنهم سعيدًا ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ﴾ [التغابن: ٢] وفي الحديث: "كلّ الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها" (٢) وقدر الله نافذ في بريته، فإنه هو ﴿وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (٣)[الأعلى: ٣] و ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ [طه: ٥٠].

وفي الصحيحين: "فأما من كان منكم من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة" (٣) ولهذا قال تعالى: ﴿فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ﴾ ثم علّل ذلك فقال: ﴿إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ الآية.

قال ابن جرير: وهذا من أبين الدلالة على خطأ من زعم أن الله لا يعذب أحدًا على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها، إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها فيركبها عنادًا منه لربه فيها، لأنه لو كان كذلك لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضلّ وهو يحسب أنه مهتدٍ، وفريق الهدى فرق، وقد فرق الله تعالى بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية (٤).

﴿يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١)﴾.

هذه الآية الكريمة ردّ على المشركين فيما كانوا يعتمدونه، من الطواف بالبيت عُراة كما رواه مسلم والنسائي وابن جرير، واللفظ له من حديث شعبة، عن سلمة بن كَهيل، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة الرجال والنساء، الرجال بالنهار والنساء بالليل، وكانت المرأة تقول:

اليوم يبدو بعضه أو كله … وما بدا منه فلا أُحله

فقال الله تعالى: ﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ (٥).

وقال العوفي، عن ابن عباس في قوله: ﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ الآية، قال: كان رجال يطوفون بالبيت عُراة فأمرهم الله بالزينة، والزينة اللباس وهو: ما يواري السوأة وما سوى ذلك من جيد البزِّ والمتاع، فأُمروا أن يأخذوا زينتهم عند كلّ مسجد (٦). وهكذا قال مجاهد وعطاء وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير وقتادة والسدي والضحاك ومالك، عن الزهري وغير واحد من


(١) تقدم تخريجه في تفسير سورة الأنعام آية ٧٩.
(٢) تقدم تخريجه وصحته في تفسير سورة المائدة آية ٦ في آخرها.
(٣) أخرجه البخاري من حديث علي بن أبي طالب (الصحيح، التفسير، باب ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (٧)﴾ [الليل] ح ٤٩٤٦) وباب ﴿وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (٨)﴾ [الليل] (ح ٤٩٤٧) والباب الذي يليه (ح ٤٩٤٨)، وصحيح مسلم القدر، باب كيفية الخلق الآدمي (ح ٢٦٤٧).
(٤) ذكره الطبري بلفظه.
(٥) صحيح مسلم، التفسير، باب في قوله تعالى: ﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ (ح ٢٠٢٨)، وسنن النسائي، الحج، باب ﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ ح ٥/ ٢٣٣.
(٦) أخرجه الطبري بسند ضعيف من طريق العوفي به ويشهد له ما يليه من أقوال.