للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

بين جمادى وشعبان" فإنما أضافه إلى مضر ليبين صحة قولهم في رجب أنه الشهر الذي بين جمادى وشعبان لا كما تظنه ربيعة من أن رجب المحرم هو الشهر الذي بين شعبان وشوال وهو رمضان اليوم، فبيَّن أنه رجب مضر لا رجب ربيعة، وإنما كانت الأشهر المحرمة أربعة ثلاثة سرد وواحد فرد، لأجل أداء مناسك الحج والعمرة، فَحُرِّم قبل أشهر الحج شهرًا وهو ذو القعدة لأنهم يقعدون فيه عن القتال وحُرِّم شهر ذي الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون فيه بأداء المناسك، وحُرِّم بعده شهرًا آخر وهو المحرَّم ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين، وحُرِّم رجب في وسط الحول لأجل زيارة البيت والاعتمار به لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب، فيزوره ثم يعود إلى وطنه فيه آمنًا.

وقوله: ﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ أي: هذا هو الشرع المستقيم من امتثال أمر الله فيما جعل من الأشهر الحرم والحذو بها على ما سبق من كتاب الله الأول.

وقال تعالى: ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ أي: في هذه الأشهر المحرمة؛ لأنها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها كما أن المعاصي في البلد الحرام تضاعف، لقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الحج: ٢٥] وكذلك الشهر الحرام تُغلَّظ فيه الآثام؛ ولهذا تغلظ فيه الدية في مذهب الشافعي وطائفة كثيرة من العلماء، وكذا في حق من قُتل في الحرم أو قتل ذا محرم.

وقال حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس في قوله: ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ قال: في الشهور كلها (١).

وقال علي بن أبى طلحة، عن ابن عباس قوله: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّه﴾ الآية، فلا تظلموا فيهن أنفسكم في كلُهنَّ، ثم اختص من ذلك أربعة أشهر فجعلهنَّ حرامًا وعظم حرماتهنَّ، وجعل الذنب فيهنَّ أعظم والعمل الصالح والأجر أعظم (٢).

وقال قتادة في قوله: ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾: إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرًا من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيمًا، ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء، وقال: إن الله اصطفى صفايا من خلقه؛ اصطفى من الملائكة رسلًا، ومن الناس رسلًا، واصطفى من الكلام ذكره، واصطفى من الأرض المساجد. واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر فعظِّموا ما عظَّم الله. فإنما تعظيم الأمور بما عظمها الله به عند أهل الفهم وأهل العقل (٣).

وقال الثوري، عن قيس بن مسلم، عن الحسن، عن محمد بن الحنفية بأن لا تحرموهنَّ كحرمتهنَّ (٤).

وقال محمد بن إسحاق: ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ أي: لا تجعلوا حرامها حلالًا؛ ولا


(١) أخرجه ابن أبي حاتم من طريق عفان بن مسلم عن حماد بن سلمة به.
(٢) أخرجه الطبري بسند ثابت من طريق علي به.
(٣) أخرجه الطبري بسند صحيح من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة.
(٤) أخرجه ابن أبي حاتم بسند حسن من طريق قبيصة عن الثوري به.