للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

حلالها حرامًا، كما فعل أهل الشرك، فإنما النسيء الذي كانوا يصنعون من ذلك زيادة في الكفر ﴿يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ الآية [التوبة: ٣٧]، وهذا القول اختيار ابن جرير.

وقوله: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً﴾ أي: جميعكم ﴿كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً﴾ أي: جميعهم ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾.

وقد اختلف العلماء في تحريم ابتداء القتال في الشهر الحرام هل هو منسوخ أو محكم على قولين:

(أحدهما): وهو الأشهر أنه منسوخ؛ لأنه تعالى قال ههنا: ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ وأمر بقتال المشركين، وظاهر السياق مشعر بأنه أمر بذلك أمرًا عامًّا ولو كان محرَّمًا في الشهر الحرام لأوشك أن يقيده بانسلاخها، ولأن رسول الله حاصر أهل الطائف في شهر حرام وهو ذو القعدة كما ثبت في الصحيحين (١) أنه خرج إلى هوازن في شوال، فلما كسرهم واستفاء أموالهم ورجع فلُّهم لجئوا إلى الطائف، فعمد إلى الطائف فحاصرهم أربعين يومًا، وانصرف ولم يفتتحها فثبت أنه حاصر في الشهر الحرام.

والقول الآخر: أن ابتداء القتال في الشهر الحرام حرام، وأنه لم ينسخ تحريم الشهر الحرام لقوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ [المائدة: ٢] وقال: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ الآية [البقرة: ١٩٤]، وقال: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ الآية [التوبة: ٥٠] وتقدم أنها الأربعة المقررة في كل سنة لا أشهر التسيير على أحد القولين.

وأما قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً﴾ فيحتمل أنه منقطع عما قبله وأنه حكم مستأنف ويكون من باب التهييج والتحضيض أي: كما يجتمعون لحربكم إذا حاربوكم فاجتمعوا أنتم أيضًا لهم إذا حاربتموهم وقاتلوهم بنظير ما يفعلون، ويحتمل أنه أذِن للمؤمنين بقتال المشركين في الشهر الحرام إذا كانت البداءة منهم كما قال تعالى: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾ [البقرة: ١٩٤] وقال تعالى: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ﴾ الآية [البقرة: ١٩١].

وهكذا الجواب عن حصار رسول الله أهل الطائف واستصحابه الحصار إلى أن دخل الشهر الحرام، فإنه من تتمة قتال هوازن وأحلافها من ثقيف، فإنهم هم الذين ابتدءوا القتال، وجمعوا الرجال، ودعوا إلى الحرب والنزال، فعندها قصدهم رسول الله كما تقدم، فلما تحصنوا بالطائف ذهب إليهم لينزلهم من حصونهم، فنالوا من المسلمين وقتلوا جماعة، واستمر الحصار بالمجانيق وغيرها قريبًا من أربعين يومًا، وكان ابتداؤه في شهر حلال ودخل الشهر الحرام فاستمر فيه أيامًا ثم قفل عنهم؛ لأنه يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء، وهذا أمر مقرر وله نظائر كثيرة والله أعلم، ولنذكر الأحاديث الواردة (٢) في ذلك وقد حررنا ذلك في السيرة والله أعلم.


(١) ينظر صحيح البخاري، المغازي، باب غزوة الطائف (ح ٤٣٢٥ وح ٤٣٣١).
(٢) في (عم) بياض قدر نصف ورقة ولعلّ الحافظ ابن كثير لم يذكرها لأنه قد سردها في السيرة النبوية.