للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وفي هذا الذي قاله نظر، لأنه قد وعدهما أولًا بتعبيرها، ولكن جعل سؤالهما له على وجه التعظيم والاحترام وصلة وسببًا إلى دعائهما إلى التوحيد والإسلام، لما رأى في سجيتهما من قبول الخير والإقبال عليه والإنصات إليه، ولهذا لما فرغ من دعوتهما شرع في تعبير رؤياهما من غير تكرار سؤال فقال:

﴿يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (٤١)﴾.

يقول لهما: ﴿يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا﴾ وهو الذي رأى أنه يعصر خمرًا، ولكنه لم يعينه لئلا يحزن ذاك، ولهذا أبهمه في قوله: ﴿وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ﴾ وهو في نفس الأمر الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزًا، ثم أعلمهما أن هذا قد فرغ منه؛ وهو واقع لا محالة، لأن "الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت" (١).

وقال الثوري، عن عمارة بن القعقاع، عن إبراهيم عن، عبد الله قال: لما قالا ما قالا وأخبرهما، قالا: ما رأينا شيئًا، فقال: ﴿قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ﴾. ورواه محمد بن فضيل عن عمارة، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود به (٢)، وكذا فسره مجاهد وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم (٣)، وحاصله أن من تحلّم بباطل، وفسره فإنه يلزم بتأويله، والله تعالى أعلم.

وقد ورد في الحديث الشريف الذي رواه الإمام أحمد عن معاوية بن حيدة، عن النبي قال: "الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر، فإذا عبرت وقعت" (١). وفي مسند أبي يعلى من طريق يزيد الرقاشي، عن أنس مرفوعًا: "الرؤيا لأول عابر" (٤).

﴿وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢)﴾.

ولما ظن يوسف نجاة أحدهما وهو الساقي، قال له يوسف خفية عن الآخر، والله أعلم - لئلا يشعره أنه المصلوب - قال له: ﴿اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ﴾ يقول: اذكر قصتي عند ربك، وهو الملك، فنسي ذلك الموصَى أن يذكر مولاه الملك بذلك، وكان من جملة مكايد الشيطان لئلا يطلع نبي الله من السجن، هذا هو الصواب أن الضمير في قوله: ﴿فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ


(١) تقدم تخريجه في الآية (٥) من هذه السورة الكريمة.
(٢) أخرجه الطبري بالسندين، وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق محمد بن فضيل به وسنده صحيح، وأخرجه الحاكم من طريق الثوري عن عمارة بن القعقاع عن إبراهيم عن الأسود عن ابن مسعود وصححه (المستدرك ٢/ ٣٤٦).
(٣) قول مجاهد أخرجه الطبري بسند صحيح من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد.
(٤) أخرجه أبو يعلى من طريق يزيد الرقاشي به وأطول (المسند ٧/ ١٥٨ ح ٤١٣١) وضعفه محقفه، وأخرجه ابن ماجه من طريق الرقاشي أيضًا، وضعفه البوصيري لضعف يزيد الرقاشي (مصباح الزجاجة ٣/ ٢١٦) وضعفه أيضًا الحافظ ابن حجر (فتح الباري ١٢/ ٤٣٢).