أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ فكيف يسوغ لأحد من المشركين بعد هذا أن يقول: ﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ فمشيئته تعالى الشرعية عنهم منتفية، لأنه نهاهم عن ذلك على ألسنة رسله، وأما مشيئته الكونية وهي تمكينهم من ذلك قدرًا، فلا حجة لهم فيها، لأنه تعالى خلق النار وأهلها من الشياطين والكفرة، وهو لا يرضى لعباده الكفر، وله في ذلك حجة بالغة وحكمة قاطعة.
ثم إنه تعالى قد أخبر أنه أنكر عليهم بالعقوبة في الدنيا بعد إنذار الرسل، فلهذا قال: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ أي: اسألوا عما كان من أمر من خالف الرسل وكذب الحق كيف ﴿دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا﴾ [محمد: ١٠]، فقال: ﴿وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (١٨)﴾ [الملك].
ثم أخبر الله تعالى رسوله ﷺ أن حرصه على هدايتهم لا ينفعهم إذا كان الله قد أراد إضلالهم، كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ [المائدة: ٤١] وقال نوح لقومه: ﴿وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ﴾ [هود: ٣٤] وقال في هذه الآية الكريمة: ﴿إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ﴾ كما قال الله تعالى: ﴿مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦)﴾ [الأعراف] وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (٩٧)﴾ [يونس].
وقوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾ أي: شأنه وأمره أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فلهذا قال: ﴿لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ﴾ أي: من أضله، فمن ذا الذي يهديه من بعد الله؟ أي: لا أحد ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ أي: ينقذونهم من عذابه ووثاقه ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف: ٥٤].
يقول تعالى مخبرًا عن المشركين أنهم حلفوا فأقسموا ﴿بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ أي: اجتهدوا في الحلف، وغلظوا الأيمان على أنه لا يبعث الله من يموت أي استبعدوا ذلك، وكذبوا الرسل في إخبارهم لهم بذلك وحلفوا على نقيضه، فقال تعالى مكذبًا لهم ورادًا عليهم ﴿بَلَى﴾ أي: بلى سيكون ذلك ﴿وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا﴾ أي: لا بدّ منه ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ أي: فلجهلهم يخالفون الرسل ويقعون في الكفر،
ثم ذكر تعالى حكمته في المعاد وقيام الأجساد يوم التناد، فقال: ﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمُ﴾ أي: للناس ﴿الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾ أي: من كل شيء ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾ [النجم: ٣١].
﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ﴾ أي: في أيمانهم وأقسامهم لا يبعث الله من يموت، ولهذا يدعون يوم القيامة إلى نار جهنم دعا، وتقول لهم الزبانية: ﴿هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦)﴾ [الطور].