للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

ثم قال تعالى لرسوله: إنه إنما أنزل عليه الكتاب ليبيِّن للناس الذي يختلفون فيه؟ فالقرآن فاصل بين الناس في كل ما يتنازعون فيه ﴿وَهُدًى﴾ أي: للقلوب ﴿وَرَحْمَةً﴾ أي: لمن تمسك به ﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ وكما جعل سبحانه القرآن حياة للقلوب الميتة بكفرها، كذلك يحيي الأرض بعد موتها بما أنزله عليها من السماء من ماء ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ أي: يفهمون الكلام ومعناه.

﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (٦٦) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧)﴾.

يقول تعالى: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ﴾ أيها الناس ﴿فِي الْأَنْعَامِ﴾ وهي الإبل والبقر والغنم ﴿لَعِبْرَةً﴾ أي: لآية ودلالة على حكمة خالقها وقدرته ورحمته ولطفه ﴿نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ﴾ أفردها ههنا عودًا على معنى النعم، أو الضمير عائد على الحيوان، فإن الأنعام حيوانات أي: نسقيكم مما في بطن هذا الحيوان، وفي الآية الأخرى: ﴿مِمَّا فِي بُطُونِهِا﴾ [المؤمنون: ٢١]، ويجوز هذا وهذا، كما في قوله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (٥٥)[المدثر] وفي قوله تعالى: ﴿وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ﴾ [النمل] أي: المال.

وقوله: ﴿مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا﴾ أي: يتخلص اللبن بياضه وطعمه وحلاوته، ما بين فرث ودم في باطن الحيوان، فيسري كل إلى موطنه إذا نضج الغذاء في معدته، فيصرف منه دم إلى العروق، ولبن إلى الضرع، وبول إلى المثانة، وروث إلى المخرج، وكل منها لا يشوب الآخر ولا يمازجه بعد انفصاله عنه ولا يتغير به.

وقوله: ﴿لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ﴾ أي: لا يغصُّ به أحد، ولما ذكر اللبن وأنه تعالى جعله شرابًا للناس سائغًا ثنَّى بذكر ما يتخذه الناس من الأشربة من ثمرات النخيل والأعناب، وما كانوا يصنعون من النبيذ المسكر قبل تحريمه، ولهذا امتنَّ به عليهم فقال: ﴿وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا﴾ دلَّ على إباحته شرعًا قبل تحريمه، ودلَّ على التسوية بين المسكر المتخذ من النخل والمتخذ من العنب، كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء، وكذا حكم سائر الأشربة المتخذة من الحنطة والشعير والذرة والعسل، كما جاءت السُّنة بتفصيل ذلك، وليس هذا موضع بسط ذلك.

كما قال ابن عباس في قوله: ﴿سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا﴾ السكر ما حرم من ثمرتيهما، والرزق الحسن ما أحل من ثمرتيهما (١)، وفي رواية: السكر حرامه، والرزق الحسن حلاله (٢)، يعني ما يبس منهما من تمر وزبيب، وما عمل منهما من طلاء وهو الدبس وخلٌّ ونبيذ، حلال يشرب قبل


(١) أخرجه البخاري معلقًا (تغليق التعليق ٤/ ٢٣٧)، ووصله الثوري عن الأسود بن قيس عن عمرو بن سفيان عن ابن عباس، وسنده جيد، وأخرجه عبد بن حميد في تفسيره من طريق سفيان الثوري به (ينظر: تغليق التعليق ٤/ ٢٣٧).
(٢) أخرجه عبد بن حميد من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس (المصدر السابق) وسنده حسن.