للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وقوله: ﴿وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ﴾ قال قتادة وعكرمة: ذَلُّوا واستسلموا يومئذٍ (١)؛ أي: استسلموا لله جميعهم فلا أحد إلا سامع مطيع، كما قال تعالى: ﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا﴾ [مريم: ٣٨] أي: ما أسمعهم وما أبصرهم يومئذٍ، وقال: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢)[السجدة]، وقال: ﴿وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ﴾ [طه: ١١١] أي: خضعت وذلّت واستكانت وأنابت واستسلمت.

وقوله: ﴿وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧)﴾ أي: ذهب واضمحل ما كانوا يعبدونه افتراء على الله فلا ناصر لهم ولا معين ولا مجير.

ثم قال تعالى: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا﴾ الآية، أي عذابًا على كفرهم وعذابًا على صدِّهم الناس عن اتباع الحق كقوله تعالى: ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ﴾ [الأنعام: ٢٦] أي: ينهون الناس عن اتباعه ويبتعدون هم منه أيضًا ﴿وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ [الأنعام: ٢٦] وهذا دليل على تفاوت الكفار في عذابهم كما يتفاوت المؤمنون في منازلهم في الجنة ودرجاتهم، كما قال تعالى: ﴿قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: ٣٨].

وقد قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا سريج بن يونس، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن عبد الله بن مُرَّة، عن مسروق، عن عبد الله في قول الله: ﴿زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ﴾ قال: زيدوا عقارب أنيابها كالنخل الطوال (٢).

حدثنا سُريج بن يونس، حدثنا إبراهيم بن سليمان، حدثنا الأعمش، عن الحسن، عن ابن عباس في الآية أنه قال: ﴿زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ﴾ قال: هي خمسة أنهار تحت العرش يعذبون ببعضها في الليل وببعضها في النهار (٣).

﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩)﴾.

يقول تعالى مخاطبًا عبده ورسوله محمدًا : ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ﴾ يعني أمتك؛ أي: اذكر ذلك اليوم وهوله، وما منحك الله فيه من الشرف العظيم والمقام الرفيع، وهذه الآية شبيهة بالآية التي انتهى إليها عبد الله بن مسعود حين قرأ على رسول الله صدر سورة النساء، فلما وصل إلى قوله: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (٤١)[النساء] فقال له رسول الله : "حسبك" فقال ابن مسعود : فالتفت فإذا عيناه تذرفان (٤).


(١) أخرجه الطبري بسند صحيح من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة.
(٢) أخرجه أبو يعلى بسنده ومتنه (المسند ٥/ ٦٥ ح ٢٦٥٩) وسنده صحيح وأخرجه الحاكم من طريق الأعمش به وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك ٢/ ٣٥٥، ٣٥٦) وقال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد ١٠/ ٣٩٠).
(٣) أخرجه أبو يعلى بسنده ومتنه (المسند ٥/ ٦٦ ح ٢٦٦٠) وفي سنده الحسن وهو البصري لم يسمع من ابن عباس .
(٤) تقدم تخريجه في تفسير سورة النساء آية ٤١.