للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وهذه الآية الكريمة لها أمثال في القرآن، فإنها مشتملة على مشروعية العدل والندب إلى الفضل كما في قوله: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ ثم قال: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ الآية [الشورى: ٤٠]. وقال: ﴿وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ﴾ ثم قال: ﴿فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ﴾ [المائدة: ٤٥] وقال في هذه الآية: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ ثم قال: ﴿وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾.

وقوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾ تأكيد للأمر بالصبر وإخبار بأن ذلك لا ينال إلا بمشيئة الله وإعانته، وحوله وقوته، ثم قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾ أي: على من خالفك فإن الله قدر ذلك ﴿وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ﴾ أي: غم ﴿مِمَّا يَمْكُرُونَ﴾ أي: مما يجهدون أنفسهم في عداوتك وإيصال الشر إليك. فإن الله كافيك وناصرك ومؤيدك ومظهرك ومظفرك بهم.

وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨)﴾ أي: معهم بتأييده ونصره ومعونته وهديه وسعيه وهذه معية خاصة كقوله: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الأنفال: ١٢] وقوله لموسى وهارون: ﴿لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ [طه: ٤٦] وقول النبي للصديق وهما في الغار: ﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة: ٤٠] (١).

وأما المعية العامة فبالسمع والبصر والعلم، كقوله تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [الحديد: ٤] وكقوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا﴾ [المجادلة: ٧] وكما قال تعالى: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا﴾ [يونس: ٦١].

ومعنى ﴿الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ أي: تركوا المحرمات، ﴿وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ أي: فعلوا الطاعات، فهؤلاء الله يحفظهم ويكلؤهم وينصرهم ويؤيدهم ويظفرهم على أعدائهم ومخالفيهم.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن بشار، حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا مسعر، عن عون، عن محمد بن حاطب: كان عثمان من الذين اتقوا والذين هم محسنون (٢) (٣).

آخر تفسير سورة النحل، ولله الحمد.


= ومن سورة النحل ح ٣١٢٩)، وقال الألباني: حسن صحيح الإسناد (صحيح سنن الترمذي ح ٢٥٠١)، وأخرجه الحاكم من طريق الفضل بن موسى به وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك ٢/ ٣٥٨) وكذا ابن حبان (الإحسان ٢/ ٢٣٩ ح ٤٨٧) وحسنه محققه، وكذا أخرجه الضياء (المختارة ٣/ ٣٥٠ ح ١١٤٣) وحسنه محققه.
(١) أخرجهما الشيخان من حديث البراء (صحيح البخاري، المناقب، باب علامات النبوة (ح ٣٦١٥)، وصحيح مسلم، الزهد (ح ٢٠٠٩).
(٢) سنده صحيح.
(٣) ورد في آخر الجزء ما يلي: تم الجزء الأول من تفسير ابن كثير بحمد الله وحسن توفيقه، ويتلوه في الجزء الثاني أول تفسير سورة الإسراء والحمد لله على التمام والله المسؤول أن يعين على إتمام باقيه في عافية وأن يجمع بيننا وبين من كتب له هو: الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ مشائخ الإسلام، ماضي النقض والإبرام، محيي العدل في الأنام محمد أبو السعادات بن نور الدين كان الله معه في سفره وحضره، ورزقه السلامة من آفات البر والبحر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وسلم. والحمد لله رب العالمين.