للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقوله: ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ أي: فيحكم بين عباده في أعمالهم جميعًا، ولا يظلم أحدًا من خلقه بل يعفو ويصفح ويغفر ويرحم، ويعذب من يشاء بقدرته وحكمته وعدله، ويملأ النار من الكفار وأصحاب المعاصي، ثم ينجي أصحاب المعاصي ويخلد فيها الكافرين، وهو الحاكم الذي لا يجور ولا يظلم، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (٤٠)[النساء]، وقال: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (٤٧)[الأنبياء] والآيات في هذا كثيرة.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، أخبرنا همام بن يحيى، عن القاسم بن عبد الواحد المكي، عن عبد الله بن محمد بن عقيل أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: بلغني حديث عن رجل سمعه عن النبي ، فاشتريت بعيرًا ثم شددت عليه رحلًا، فسرت عليه شهرًا حتى قدمت عليه الشام، فإذا عبد الله بن أُنيس، فقلت للبواب: قل له جابر على الباب، فقال: ابن عبد الله؟ قلت: نعم، فخرج يطأ ثوبه فاعتنقني واعتنقته، فقلت: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله في القصاص، فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعه، فقال: سمعت رسول الله يقول: "يحشر الله ﷿ الناس يوم القيامة - أو قال العباد - عراة غرلًا بهما" قلت: وما بهما؟ قال: ليس معهم شيء، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بُعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديَّان لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصّه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وله عند رجل من أهل النار حق حتى أقصّه منه حتى اللّطمة: قال: قلنا: كيف وإنما نأتي الله ﷿ حفاة عراة غرلًا بهما؟ قال: "بالحسنات والسيئات" (١).

وعن شعبة، عن العوام بن مزاحم، عن أبي عثمان، عن عثمان بن عفان أن رسول الله قال: "إن الجماء (٢) لتقتص من القرناء يوم القيامة" (٣) رواه عبد الله بن الإمام أحمد، وله شواهد من وجوه أخر، وقد ذكرناها عند قوله تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا﴾ [الأنبياء: ٤٧] وعند قوله تعالى: ﴿إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ [الأنعام: ٣٨].

﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (٥٠)﴾.

يقول تعالى منبهًا بني آدم على عداوة إبليس لهم ولأبيهم من قبلهم، ومقرعًا لمن اتبعه منهم


(١) أخرجه الإمام أحمد بسنده ومتنه، وحسن سنده محققوه (المسند/ ٤٣١ - ٤٣٣ ح ١٦٠٤٢)، وأخرجه البخاري من طريق عبد الله بن عقيل به (الأدب المفرد ح ٩٧٠)، وحسنه الألباني في صحيح الأدب المفرد ح ٧٤٦.
(٢) أي: الشاة الجماء وهي التي لا قرن لها (النهاية ١/ ٣٠٠).
(٣) تقدم تخريجه في تفسير سورة الأنعام آية ٣٩.