للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

كما قال الشاعر (١):

[فحلّت] (٢) سويدا القلب لا أنا باغيًا … سواها ولا عن حُبّهما أتحول

وفي قوله: ﴿لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا﴾ تنبيه على رغبتهم فيها وحبهم لها، مع أنه قد يتوهم فيمن هو مقيم في المكان دائمًا أنه قد يسأمه أو يملّه، فأخبر أنهم مع هذا الدوام والخلود السرمدي لا يختارون عن مقامهم ذلك متحولًا ولا انتقالًا ولا ظعنًا ولا رحلة ولا بدلًا.

﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (١٠٩)﴾.

يقول تعالى: قل يا محمد: لو كان ماء البحر مدادًا للقلم الذي يكتب به كلمات الله وحكمه وآياته الدالة عليه، لنفد البحر قبل أن يفرغ كتابة ذلك ﴿وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ﴾ أي: بمثل البحر آخر، ثم آخر وهلم جرًا بحور تمده ويكتب بها، لما نفدت كلمات الله، كما قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧)[لقمان].

وقال الربيع بن أنس: إن مثل علم العباد كلهم في علم الله كقطرة من ماء البحور كلها، وقد أنزل الله ذلك ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي﴾ يقول: لو كانت تلك البحور مدادًا لكلمات الله، والشجر كله أقلام لانكسرت الأقلام، وفني ماء البحر، وبقيت كلمات الله قائمة لا يفنيها شيء؛ لأن أحدًا لا يستطيع أن يقدر قدره ولا يثني عليه كما ينبغي حتى يكون هو الذي يثني على نفسه، إن ربنا كما يقول وفوق ما نقول: إن مثل نعيم الدنيا أولها وآخرها في نعيم الآخرة كحبة من خردل في خلال الأرض كلها.

﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (١١٠)﴾.

روى الطبراني من طريق هشام بن عمار، عن إسماعيل بن عياش، عن عمرو بن قيس الكوفي أنه سمع معاوية بن أبي سفيان قال: هذه آخر آية أُنزلت (٣).

يقول تعالى رسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه: ﴿قُلْ﴾ لهؤلاء المشركين المكذبين برسالتك إليهم ﴿إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ فمن زعم أني كاذب فليأت بمثل ما جئت به، فإني لا أعلم الغيب فيما أخبرتكم به من الماضي عما سألتم من قصة أصحاب الكهف وخبر ذي القرنين مما هو مطابق في نفس الأمر، ولولا ما أطلعني الله عليه، وإنما أخبركم ﴿أَنَّمَا إِلَهُكُمْ﴾ الذي أدعوكم إلى عبادته ﴿إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ لا شريك له ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ﴾ أي: ثوابه وجزاءه الصالح ﴿فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا﴾ أي: ما كان موافقًا لشرع الله ﴿وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ وهو الذي يراد به وجه الله


(١) هو النابغة الذبياني، واستشهد به صاحب مغني اللبيب ص ٣٦٥.
(٢) كذا في (ح) و (حم) ومغني اللبيب، وفي الأصل صُحف إلى: "فحلت".
(٣) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ١٩/ ٣٩٢، قال الهيثمي: ورجاله ثقات (مجمع الزوائد ٧/ ١٧).