للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

فسأل الله ولدًا يكون نبيًا من بعده ليسوسهم بنبوته ما يوحي إليه، فأجيب في ذلك لا أنه خشي من وراثتهم له ماله، فإن النبي أعظم منزلة وأجل قدرًا من أن يشفق على ماله إلى ما هذا حده، وأن يأنف من وراثة عصباته له ويسأل أن يكون له ولد ليحوز ميراثه دونهم هذا وجه.

الثاني: أنه (١) لم يذكر أنه كان ذا مال؛ بل كان نجارًا يأكل من كسب يديه (٢)، ومثل هذا لا يجمع مالًا ولا سيما الأنبياء، فإنهم كانوا أزهد شيء في الدنيا.

الثالث: أنه قد ثبت في الصحيحين من غير وجه أن رسول الله قال: "لا نورث، ما تركنا فهو صدقة" (٣).

وفي رواية عند الترمذي بإسناد صحيح: "نحن معشر الأنبياء لا نورث" (٤)، وعلى هذا فتعين حمل قوله: ﴿فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥)

﴿يَرِثُنِي﴾ على ميراث النبوة، ولهذا قال: ﴿وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ﴾ كما قال تعالى: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾ [النمل: ١٦] أي: في النبوة إذ لو كان في المال لما خصه من بين إخوته بذلك، ولما كان في الإخبار بذلك كبير فائدة، إذْ من المعلوم المستقر في جميع الشرائع والملل أن الولد يرث أباه، فلولا أنها وراثة خاصّة لما أخبر بها، وكل هذا يقرره ويثبته ما صح في الحديث: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا فهو صدقة" (٥).

قال مجاهد في قوله: ﴿يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ﴾: كان وراثته علمًا، وكان زكريا من ذرية يعقوب (٦).

وقال هشيم: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح في قوله: ﴿يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ﴾ قال: يكون نبيًا كما كانت آباؤه أنبياء (٧).

وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، عن الحسن: يرث نبوته وعلمه (٨).

وقال السدي: يرث نبوتي ونبوة آل يعقوب (٩).

وعن مالك، عن زيد بن أسلم ﴿وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ﴾ قال: نبوتهم (١٠).

وقال جابر بن نوح ويزيد بن هارون، كلاهما عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح في قوله: ﴿يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ﴾ قال: يرث مالي ويرث من آل يعقوب النبوة (١١)، وهذا اختيار ابن جرير في تفسيره.


(١) أي: الوجه الثاني.
(٢) تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.
(٣) أخرجه الشيخان من حديث عمر (صحيح البخاري، فرض الخمس، باب فرض الخمس ح ١٩٧، وصحيح مسلم، الجهاد، باب حكم الفيء ح ١٧٥٨).
(٤) سنن الترمذي، السير، باب ما جاء في تركة النبي (ح ١٦١٠)، وسنده صحيح كما قال الحافظ ابن كثير.
(٥) تقدم تخريجه في الحديث السابق.
(٦) أخرجه آدم بن أبي إياس والطبري بسند صحيح من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد.
(٧) أخرجه الطبري من طريق هشيم به، وسنده صحيح.
(٨) أخرجه عبد الرزاق بسنده ومتنه، وسنده صحيح.
(٩) أخرجه الطبري بسند حسن من طريق أسباط عن السدي.
(١٠) سنده صحيح.
(١١) أخرجه الطبري من طرق يقوي بعضها بعضًا.