للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

سمعت وهيب بن الورد مولى بني مخزوم قال: لقي عالم عالمًا هو فوقه في العلم، فقال له: يرحمك الله ما الذي أعلن من عملي؟ قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه دين الله الذي بعث به أنبياءه إلى عباده، وقد أجمع الفقهاء على قول الله: ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ﴾ وقيل: ما بركته؟ قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أينما كان (١). وقوله: ﴿وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا﴾ كقوله تعالى لمحمد : ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩)[الحجر].

وقال عبد الرحمن بن القاسم، عن مالك بن أنس في قوله: ﴿وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا﴾ قال: أخبره بما هو كائن من أمره إلى أن يموت، ما أثبتها لأهل القدر (٢).

وقوله: ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَتِي﴾ أي: وأمرني ببر والدتي، ذكره بعد طاعة الله ربه؛ لأن الله تعالى كثيرًا ما يقرن بين الأمر بعبادته وطاعة الوالدين، كما قال تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الإسراء: ٢٣] وقال: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ [لقمان: ١٤].

وقوله: ﴿وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا﴾ أي: ولم يجعلني جبارًا مستكبرًا عن عبادته وطاعته وبر والدتي، فأشقى بذلك. قال سفيان الثوري: الجبار الشقي: الذي يُقبل على الغضب (٣).

وقال بعض السلف: لا تجد أحدًا عاقًا لوالديه إلا وجدته جبارًا شقيًا، ثم قرأ: ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (٣٢)﴾ قال: ولا تجد سيء الملكة إلا وجدته مختالًا فخورًا، ثم قرأ: ﴿وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾ [النساء: ٣٦] (٤).

قال قتادة: ذُكر لنا أن امرأة رأت ابن مريم يحيى الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص في آيات سلطه الله عليهنَّ وأَذنَ له فيهنَّ، فقالت: طوبى للبطن الذي حملَك، وطوبى للثدي الذي أرضعت به، فقال نبي الله عيسى يجيبها: طوبى لمن تلا كتاب الله فاتبع ما فيه، ولم يكن جبارًا شقيًا (٥).

وقوله: ﴿وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣)﴾ إثبات منه لعبوديته لله ﷿، وأنه مخلوق من خلق الله يحيى ويموت ويبعث كسائر الخلائق، ولكن له السلامة في هذه الأحوال التي هي أشق ما يكون على العباد، [صلوات الله وسلامه عليه] (٦).

﴿ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧)﴾.

يقول تعالى لرسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه: ذلك الذي قصصناه عليك من خبر


(١) أخرجه الطبري بسنده ومتنه بلفظ: "وقد اجتمع الفقهاء"، وسنده جيد.
(٢) سنده صحيح.
(٣) أخرجه البستي بسند صحيح عن ابن أبي عمر العدني عن سفيان.
(٤) أخرجه الطبري بسند ضعيف من طريق عبد الله بن واقد أبي رجاء عن بعض أهل العلم.
(٥) أخرجه الطبري بسند رجاله ثقات لكنه مرسل، ومثل هذا الخبر لا يؤخذ إلا من حديث مرفوع أو له حكم الرفع.
(٦) زيادة من (حم).