للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

قريبًا من ذلك (١).

وقد ذكر غير واحد من علماء التاريخ من أهل الكتاب وغيرهم أن قسطنطين جمعهم في محفل كبير من مجامعهم الثلاثة المشهورة عندهم، فكان جماعة الأساقفة منهم ألفين ومائة وسبعين أسقفًا، فاختلفوا في عيسى ابن مريم اختلافًا متباينًا، جدًا، فقالت كل شرذمة فيه قولًا، فمائة تقول فيه شيئًا، وسبعون تقول فيه قولًا آخر، وخمسون تقول شيئًا آخر ومائة وستون تقول شيئًا، ولم يجتمع على مقالة واحدة أكثر من ثلاثمائة، وثمانية منهم اتفقوا على قول وصمموا عليه، فمال إليهم الملك وكان فيلسوفًا فقدمهم ونصرهم وطرد من عداهم، فوضعوا له الأمانة الكبيرة؛ بل هي الخيانة العظيمة، ووضعوا له كتب القوانين وشرعوا له أشياء، وابتدعوا بدعًا كثيرة، وحرفوا دين المسيح وغيروه، فابتنى لهم حينئذٍ الكنائس الكبار في مملكته كلها، بلاد الشام والجزيرة والروم، فكان مبلغ الكنائس في أيامه ما يقارب اثنتي عشرة ألف كنيسة، وبنت أمه هيلانة قمامة على المكان الذي صلب فيه المصلوب الذي يزعم اليهود والنصارى أنه المسيح، وقد كذبوا بل رفعه الله إلى السماء.

وقوله: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ تهديد ووعيد شديد لمن كذب على الله وافترى وزعم أن له ولدًا، ولكن أنظرهم تعالى إلى يوم القيامة، وأجلهم حلمًا وثقة بقدرته عليهم، فإنه الذي لا يعجل على من عصاه، كما جاء في الصحيحين: "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته" ثم قرأ رسول الله : ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢)[هود] (٢). وفي الصحيحين أيضًا عن رسول الله أنه قال: "لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله، إنهم يجعلون له ولدًا وهو يرزقهم ويعافيهم" (٣). وقد قال الله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨)[الحج]، وقال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (٤٢)[إبراهيم] ولهذا قال ههنا: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ أي: يوم القيامة.

وقد جاء في الحديث الصحيح المتفق على صحته عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله : "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل" (٤).

﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٣٨) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (٤٠)﴾.

يقول تعالى مخبرًا عن الكفار يوم القيامة: إنهم يكونون أسمع شيء وأبصره، كما قال تعالى:


(١) عزاه السيوطي في الدر المنثور إلى ابن أبي حاتم.
(٢) تقدم تخريجه في تفسير سورة هود آية ١٠٢.
(٣) صحيح البخاري، الأدب، باب الصبر على الأذى (ح ٦٠٩٩)، وصحيح مسلم، صفات المنافقين، باب لا أحد أصبر على أذى من الله ﷿ (ح ٢٨٠٤).
(٤) صحيح البخاري، أحاديث الأنبياء، باب قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ. . .﴾ [آل عمران: ٤٥] (ح ٣٤٣٥) وصحيح مسلم، الإيمان، باب الدليل على من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا (ح ٣١٠).