للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وفي صحيح البخاري عن مجاهد: أنه سأل ابن عباس: أفي ﴿ص﴾ سجدة؟ فقال: نعم، ثم تلا هذه الآية: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: ٩٠] فنبيكم ممن أمر يقتدي بهم، قال: وهو منهم؛ يعني: داود (١).

وقال الله تعالى في هذه الآية الكريمة: ﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾ أي: إذا سمعوا كلام الله المتضمن حججه ودلائله وبراهينه، سجدوا لربهم خضوعًا واستكانة وحمدًا وشكرًا على ما هم فيه من النعم العظيمة، والبكي جمع باك، فلهذا أجمع العلماء على شرعية السجود ههنا اقتداء بهم واتباعًا لمنوالهم.

قال سفيان الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر قال: قرأ عمر بن الخطاب سورة مريم، فسجد وقال: هذا السجود فأين البكي؟ يريد البكاء، رواه ابن أبي حاتم وابن جرير (٢)، وسقط من روايته ذكر أبي معمر فيما رأيت، فالله أعلم.

﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (٦٠)﴾.

لما ذكر تعالى حزب السعداء وهم الأنبياء ، ومن اتبعهم من القائمين بحدود الله وأوامره، المؤدين فرائض الله التاركين لزواجره، ذكر أنه ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ﴾ أي: قرون أُخر ﴿أَضَاعُوا الصَّلَاةَ﴾ وإذا أضاعوها فهم لما سواها من الواجبات أضيع؛ لأنها عماد الدين وقوامه وخير أعمال العباد، وأقبلوا على شهوات الدنيا وملاذها ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، فهؤلاء سيلقون غيًا؛ أي: خسارًا يوم القيامة.

وقد اختلفوا في المراد بإضاعة الصلاة ههنا فقال قائلون: المراد بإضاعتها تركها بالكلية، قاله محمد بن كعب القرظي وابن زيد بن أسلم والسدي (٣)، واختاره ابن جرير ولهذا ذهب من ذهب من السلف والخلف والأئمة كما هو المشهور عن الإمام أحمد، وقول عن الشافعي إلى تكفير تارك الصلاة (٤) للحديث: "بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة" (٥).

والحديث الآخر: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر" (٦)، وليس هذا محل بسط هذه المسألة.


(١) أخرجه البخاري بنحوه (صحيح البخاري، التفسير، سورة ص ح ٤٨٠٧)، وسورة الأنعام باب ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: ٩٠] (ح ٤٦٣٢)، وكأن الحافظ ابن كثير، أورده بالمعنى.
(٢) سنده صحيح، وهو كما قال الحافظ ابن كثير فقد أخرجه الطبري من طريق الثوري به دون ذكر أبي معمر.
(٣) قول محمد بن كعب القرظي أخرجه الطبري بسند حسن من طريق أبي صخر عنه.
(٤) ورأي الجمهور أن تكفير تارك الصلاة إذا كان جاحدًا لها.
(٥) أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله (الصحيح، الإيمان، باب إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة ح ١٣٤).
(٦) أخرجه الترمذي من حديث بريدة وقال: حسن صحيح غريب (السنن، الإيمان، باب ما جاء في ترك الصلاة ح ٢٦٢١)، وكذا أخرجه ابن ماجه (السنن، إقامة الصلاة، باب ما جاء فيمن ترك الصلاة ح ١٠٧٩)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (ح ٨٨٤).