للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وقوله: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ أي: إذا مر الخلائق كلهم على النار وسقط فيها من سقط من الكفار والعصاة ذوي المعاصي بحسبهم، نجى الله تعالى المؤمنين المتقين منها بحسب أعمالهم، فجوازهم على الصراط وسرعتهم بقدر أعمالهم التي كانت في الدنيا، ثم يشفعون في أصحاب الكبائر من المؤمنين، فيشفع الملائكة والنبيون والمؤمنون فيخرجون خلقًا كثيرًا قد أكلتهم النار إلا دارات وجوههم وهي مواضع السجود، وإخراجهم إياهم من النار بحسب ما في قلوبهم من الإيمان، فيُخرجون أولًا من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه، حتى يُخرجون من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، ثم يخرج الله من النار من قال يومًا من الدهر: لا إله إلا الله وإن لم يعمل خيرًا قط، ولا يبنى في النار إلا من وجب عليه الخلود كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله ، ولهذا قال تعالى: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (٧٢)﴾.

﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (٧٤)﴾.

يخبر تعالى عن الكفار حين تتلى عليهم آيات الله ظاهرة الدلالة بينة الحجة واضحة البرهان أنهم يصدون ويعرضون عن ذلك، ويقولون عن الذين آمنوا مفتخرين عليهم ومحتجين على صحة ما هم عليه من الدين الباطل بأنهم ﴿خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا﴾ أي: أحسن منازل وأرفع دورًا ﴿وَأَحْسَنُ نَدِيًّا﴾ وهو: مجتمع الرجال للحديث؛ أي: ناديهم أعمر وأكثر واردًا وطارقًا، يعنون: فكيف نكون ونحن بهذه المثابة على باطل وأولئك الذين هم مختفون مستترون في في دار الأرقم بن أبي الأرقم ونحوها من الدور على الحق؟ كما قال تعالى مخبرًا عنهم: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ﴾ [الأحقاف: ١١]، وقال قوم نوح: ﴿أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ﴾ [الشعراء: ١١١] وقال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣)[الأنعام] ولهذا قال تعالى رادًا على شبهتهم: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ﴾ أي: وكم من أمة وقرن من المكذبين قد أهلكناهم بكفرهم ﴿هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا﴾ أي: كانوا أحسن من هؤلاء أموالًا ومناظر وأشكالًا وأمتعة.

قال الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس: ﴿خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا﴾ قال المقام: المنزل، والندي: المجلس، والأثاث: المتاع، والرئي: المنظر (١).

وقال العوفي، عن ابن عباس: المقام: المسكن، والندي: المجلس والنعمة والبهجة التي كانوا فيها، وهو كما قال الله لقوم فرعون حين أهلكهم وقصّ شأنهم في القرآن: ﴿كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (٢٦)[الدخان] فالمقام: المسكن والنعيم، والندي: المجلس والمجمع الذي كانوا يجتمعون فيه، وقال تعالى فيما قصّ على رسوله من أمر قوم لوط: ﴿وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ﴾ [العنكبوت: ٢٩] والعرب تسمي المجلس: النادي (٢).


(١) أخرجه الطبري بسند صحيح من طريق سفيان عن الأعمش به مقطعًا.
(٢) أخرجه الطبري بسند ضعيف من طريق العوفي به، ويتقوى شطره الأول بسابقه.