للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

متسق كل من العالم العلوي والسفلي مرتبط بعضه ببعض في غاية الكمال ﴿مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ﴾ [الملك: ٣]، ثم لكان كل منهم يطلب قهر الآخر وخلافه، فيعلو بعضهم على بعض، والمتكلمون ذكروا هذا المعنى، وعبروا عنه بدليل التمانع، وهو أنه لو فرض صانعان فصاعدًا فأراد واحد تحريك جسم والآخر أراد سكونه، فإن لم يحصل مراد كل واحد منهما كانا عاجزين، والواجب لا يكون عاجزًا ويمتنع اجتماع مراديهما للتضاد، وما جاء هذا المحال إلا من فرض التعدد، فيكون محالًا، فأما إن حصل مراد أحدهما دون الآخر، كان الغالب هو الواجب والآخر المغلوب ممكنًا؛ لأنَّهُ لا يليق بصفة الواجب أن يكون مقهورًا، ولهذا قال تعالى: ﴿وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ أي: عمّا يقول الظالمون المعتدون في دعواهم الولد أو الشريك علوًا كبيرًا ﴿عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ أي: يعلم ما يغيب عن المخلوقات وما يشاهدونه ﴿فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ أي: تقدّس وتنزّه وتعالى ﷿ عمَّا يقول الظالمون والجاحدون.

﴿قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (٩٥) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (٩٦) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨)﴾.

يقول تعالى آمرًا نبيه محمدًا أن يدعو بهذا الدعاء عند حلول النقم ﴿رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ﴾ أي: إن عاقبتهم وأنا أشاهد ذلك، فلا تجعلني فيهم، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه: "وإذا أردت بقوم فتنة فتوفّني إليك غير مفتون" (١).

وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (٩٥)﴾ أي: لو شئنا لأريناك ما نحل بهم من النقم والبلاء والمحن. ثم قال تعالى مرشدًا له إلى الترياق النافع في مخالطة الناس وهو الإحسان إلى من يسيء إليه، ليستجلب خاطره فتعود عداوته صداقة وبغضه محبة، فقال تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ﴾، وهذا كما قال في الآية الأخرى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥)[فصلت] أي: وما يلهم هذه الوصية أو هذه الخصلة أو الصفة ﴿إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ أي: على أذى الناس فعاملوهم بالجميل مع إسدائهم القبيح ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ أي: في الدنيا والآخرة.

وقوله تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (٩٧)﴾ أمره اللَّه أن يستعيذ من الشياطين؛ لأنهم لا تنفع معهم الحيل ولا ينقادون بالمعروف، وقد قدمنا عند الاستعاذة أن رسول الله كان يقول: "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه" (٢).


(١) أخرجه الإمام أحمد من حديث معاذ بن جبل ، وضعف سنده محققوه (المسند ٣٦/ ٤٢٢، ٤٢٣ ح ٢٢١٠٩)، وأخرجه الترمذي وصححه (السنن، تفسير القرآن، باب ومن سورة ص ح ٣٢٣٥)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (ح ٢٥٨٢).
(٢) تقدم في بداية التفسير.