للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

ومنصبهم، فإن الله تعالى جعل لهم من السمات الحسنة والصفات الجميلة والأقوال الفاضلة والأعمال الكاملة والخوارق الباهرة والأدلة الظاهرة، ما يستدل به كل ذي لبٍّ سليم وبصيرة مستقيمة على صدق ما جاؤوا به من الله، ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾ [يوسف: ١٠٩] وقوله: ﴿وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (٨)[الأنبياء].

وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ﴾ أي: اختبرنا بعضكم ببعض، وبلونا بعضكم ببعض، لنعلم من يطيع ممن يعصي، ولهذا قال: ﴿أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾ أي: بمن يستحق أن يوحي إليه، كما قال تعالى: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: ١٢٤] ومن يستحق أن يهديه الله لما أرسلهم به ومن لا يستحق ذلك.

وقال محمد بن إسحاق في قوله: ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ﴾ قال: يقول الله: لو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يخالفون لفعلت، ولكني قد أردت أن أبتلي العباد بهم وأبتليكم بهم (١). وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار عن رسول الله : "يقول الله تعالى إني مبتليك ومبتلٍ بك" (٢). وفي المسند عن رسول الله : "لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة" (٣). وفي الصحيح أنه عليه أفضل الصلاة والسلام خُيّر بين أن يكون نبيًا ملكًا أو عبدًا رسولًا، فاختار أن يكون عبدًا رسولًا (٤).

﴿وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (٢١) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (٢٢) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (٢٣) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (٢٤)﴾.

يقول تعالى مخبرًا عن تعنت الكفار في كفرهم، وعنادهم في قولهم: ﴿لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ﴾؛ أي: بالرسالة كما تنزل على الأنبياء، كما أخبر الله عنهم في الآية الأخرى ﴿قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ﴾ [الأنعام: ١٢٤]، ويحتمل أن يكون مرادهم ههنا ﴿لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ﴾ فنراهم عيانًا فيخبرونا أن محمدًا رسول الله، كقولهم: ﴿أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا﴾ [الإسراء: ٩٢]، وقد تقدم تفسيرها في سورة سبحان، ولهذا قالوا: ﴿أَوْ نَرَى رَبَّنَا﴾ ولهذا قال الله تعالى: ﴿لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا﴾ وقد قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا


(١) أخرجه ابن أبي حاتم بسند حسن من طريق سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق، وذكره ابن هشام (السيرة النبوية ١/ ٣٩).
(٢) أخرجه مسلم بلفظ: "إنما بعَثتُك لأبتليك وأبتلي بك"، مطولًا الصحيح، الجنة وصفة نعيمها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار (٢٨٦٥).
(٣) أخرجه أبو يعلى من حديث عائشة مرفوعًا (المسند ٨/ ٣١٨ ح ٤٩٢٠)، وضعف سنده محققه لضعف أبي معشر وهو نجيح بن عبد الرحمن، ويشهد له الحديث التالي، ولهذا حسنه الهيثمي (مجمع الزوائد ٩/ ١٩).
(٤) أخرجه الإمام أحمد من حديث أبي هريرة مرفوعًا (المسند ١٢/ ٧٦ ح ٧١٦٠) وصحح سنده محققوه.